لك الشكر ربي... ثم لكل هؤلاء.


لك الشكر ربي... ثم لكل هؤلاء.




بقلم : محمد ناصرالدين لحمادي





 لا أشاهد القناة الثانية إلا لماما، مع أن جزءا من فاتورة الكهرباء التي تثقل جيوبنا يذهب إليها... ووقع أن صادفت فيها إعلانا لبرنامج يستضيف "المشاهير"، كان ضيف الأسبوع مغن جزائري مشهور غير مغمور، ومن أجوبته، التي اختيرت لإشهار الحلقة والترغيب في مشاهدتها قوله حين سأله مقدم البرنامج: "لمن تتوجه بالشكر؟"، فقال: لله سبحانه...
وبغض الطرف عن سياق الجواب، فإنه عميق الدلالة قوي الإشارة، فنحن نشكر من الخلق من أسدى إلينا معروفا، ولكننا نغفل ونذهل عن الله تعالى صاحب الإحسان كله، فلا نشكره، وإذا ما فعلنا فنادرا، رغم أنه ـ جل جلاله ـ أولانا من كل الجميل تفضلا وتكرما من غير حق واجب لنا عليه.
و في الكتاب العزيز آيات كثيرة تؤكد حقيقة مهمة، وهي قلة شكر الناس للنعم الربانية، ف "أكثر الناس لا يشكرون"، و"قليل من عبادي الشكور"... إن لإنسان غالبا ما يتقلب في نعم الله العظيمة، ولكنه يغفل عن شكرها، أو ينكرها ويجحد المتفضل بها.
و قد أمر الله الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بالشكر: "اعملوا آل داود شكرا"، وقال لموسى الكليم: "فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين"، وخاطب نبينا الكريم قائلا: "بل الله فاعبد و كن من الشاكرين"، وقد امتثل ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ أمر ربه، فكان يقول لزوجه التقية النقية عائشة: ـ ذريني أتعبد لربي"، و يقوم الليل يصلي والناس نيام حتى تتفطر قدماه الشريفتان...
و الناظر في نعم الله تعالى يلفيها أكثر من أن تعد أو تحصى: الإيمان و الأمان، التكريم والاستخلاف، العلم و الفهم، السلامة و القوة، الزوجة والأولاد... و لو تأمل المرء كفالة الله له مذ كان في ظلمة الرحم، ثم وليدا وفتى وكهلا، وما آتاه في هذه المدد كلها من فضل، و ما كلأه به من حماية، وما هيأ له من الخيور وما جنبه من الشرور لذاب حبا لله العظيم، و لأفنى أكثر وقته شاكرا لربه، متضرعا إليه، منطرحا بين يديه، و ما أحسن قول أبي القاسم السهيلي محدثا بنعمة ربه عليه:
هو الصمد التبر الذي فاض جوده ...   وعم الورى طرا بجزل المواهب
فما زال يوليني الجمـيل تفضلا ...      ويدفـع عـني في صدور النوائـب
ويرزقني طـفلا وكـهـلا وقـبلها  ...     جنـينا ويحـمـيني دنيء المكاسب
إنهما الكرم الإلاهي الجزيل، و العطاء الرباني الواسع، اللذان يطوقان العبد الضعيف الفقير إلى مولاه، ولكن الإنسان ـ مع ضعفه وفقره ـ لربه كنود جحود، ينسى المنعم، و يذهل عن شكره بما هو مستغرق فيه من نعم ربه... إنه الإحساس الإنساني البليد المتولد عن الانغماس في الأفضال و النعم وتبديدها وتبذيرها، أو جحود المنعم والإعراض عنه، نتيجة اعتداد الإنسان الجاحد حيث يرى نفسه عالما غنيا قادرا، أو يأسه و قنوطه عندما تحل به الكروب و تكبله الذنوب. و ما من شك في أن من يأتي هذا كله سيء الأدب مع الله إذ لم يقدره حق قدره أولا، وظالم لنفسه باستحقاقه العقوبة ثانيا.
و إذا كان الله تعالى أهلا لكل شكر و ثناء وحمد، لما أنعم به علينا من عظيم المواهب، و ما أولانا من جميل المكاسب، فإن ثمة أيضا من له الحق علينا من الخلق، فيستحق الشكر الجزيل و الثناء الجميل، إذ "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"، فثمة من نحن مدينون له بدين يشق علينا أداؤه، و تقصر يدنا عن مكافأته، فلا نجد له جزاء إلا الشكر... و قد كانت مولاتنا عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، تتمثل بقول الشاعر:
يجزيك أو يثني عليك وإن من      أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
و كان النبي الكريم يعجبه هذا البيت فيستنشدها إياه.
وممن له عندنا صنائع معروف، و له علينا أياد بيضاء، و يستحق النصيب الأوفى و الحظ الأوفر من الشكر والثناء: نبينا الحبيب، الذي جاء سراجا إلى الإنسانية وكانت غرقى في ضلالتها، سادرة في غوايتها، فأضاء القلوب من ظلماتها، و حرر العقول من قيودها، رغب في الخير، و رهب من الشر، فله منا كل الحب و الشوق و الشكر.
و الوالدان أهل لكل شكر، و في الكتاب العزيز: "أن اشكر لي ولوالديك"، حيث قرنهما الله به، وشرفهما بالعطف على نفسه، لعظيم قدرهما وكبير فضلهما، فقد بذلا من العطف فوق ما يتحمله الوصف، و قدما من الحنان ما لا يقدمه إنسان، وإن شكرهما ـ إضافة إلى الكلم الطيب و القول الحسن ـ  ليتمثل في برهما و الإحسان إليهما و الصبر عليهما... فرحمهما الله كما ربياني صغيرا.
والزوج رفيقة الدرب و شريكة العمر، تستحق أيضا الشكر، لما تغمر به زوجها من رقة و حب، و لتحملها أعباءه و قضائها حوائجه برحابة صدر و طلاقة وجه، يجد لديها السند و العون و المؤازرة و المشورة...
و الأستاذ الذي علمنا حري بالثناء، فشكرا لمن علمنا آي القرآن الكريم في الكتاتيب، وشكرا لمن لقننا العلم النافع في المدارس، لقد وسعوا نفوسنا، وأناروا دروبنا، فجزاهم الله كل خير، ورحم ميتهم، وختم بالحسنى لحيهم.
   و الأصحاب إخواننا الذين لم تلدهم أمهاتنا، هم لنا كاليد للفم، يشاركوننا الفرح و الترح، يهنؤوننا بالخير ويعزوننا في الشر، يتحسون المر ويسقوننا العذب، فشكرا لهم.
وبعد، فهذه جولة في رياض الشكر و مجاليه، وبعض من ثمراته و معانيه التي صارت عملة نادرة في زمننا، فما أحوجنا أن نتشكر لكل من له الفضل علينا... فلك الشكر ربي، ثم لكل هؤلاء.



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس