متى ينتهي زمن الأولياء؟
بقلم: محمد بعدي
ينتشرون
في كل مكان داخل الخارطة المغربية، وجودهم تلفه قدسية الزمن الماضي، قاموسهم لا
تعثر فيه على كلمة "مستحيل"، يستطيعون فعل كل شيء، منهم المتخصص، و منهم
الذي لا حدود لمؤهلاته... يحمون حدود الجغرافيا و يؤثرون في مجرى التاريخ، إنهم
الأولياء، أصحاب الكرامات و البركات التي تفوق العادة و تعلو على المألوف. فبعضهم
لا تعجزه الأمراض التي حيرت أمهر الأطباء، و بعضهم يستطيع إصلاح أعطاب العقول أو
فك "المعقود" أو إنطاق الأخرس أو تحريك المشلول... عالمهم عالم غرائبي
يستعصي على التفسير، يهز العقل و يشل أدوات التفكير، يخضع لطقوسه الكل، لا فرق بين
غني و فقير، بين عالم و جاهل، بين مجنون و عاقل، الجميع سواء أمام حضرته، يمتثلون
أمام قدرته، و ينتظرون بركته...
كيف يصبح الأولياء كذلك؟
إنهم
لا ينبثون في الأرض كما تنبث الطفيليات، إذ لا شك في أنهم يتميزون بصفات
استثنائية، و شخصيات غرائبية تطرح تساؤلات عديدة، بل إن وجودهم التاريخي نفسه يطرح
التساؤل: إن الأولياء الذين يوجدون وجودا واقعيا تتميز حيواتهم بكثير من الغموض...
و لكي يصبح الولي وليا يجب عليه أن ينتزع اعتراف و تزكية المقربين. و لكي ينتزع
هذا الاعتراف فهو مدعو إلى امتلاك كرامة من الكرامات المعجزة، و هذا ما لا يتأتى
سوى بسلوك صوفي، و مجاهدة روحية تجعله يسمو فوق العالم المادي. إنه شخص ناكر للذات
بعيد عن الملذات، زاهد، عابد، ورع، مقرب من الله، عارف به... تؤهله المجاهدات
الصوفية لارتقاء درجات عليا. و عن طريق المعاناة الكبيرة سوف "يفتح الله
عليه"، و يصبح صاحب بركة يشهد له بها فيصير مسموع الرأي... و بعد وفاته يبنى
عليه الضريح و ترفع القبة { غالبا يحدده قبل وفاته}. بعدها تبدأ زيارات التبرك و
الإقبال الشعبي حيث تصبح قبته مركزا للحج، و لتقديم النذور و القرابين من أجل طلب
الإغاثة أو دفع الأضرار. و غالبا ما يرتبط اسم الولي بأساطير محلية تتشابه إلى حد
كبير، و تتحدث عن معجزات الولي و بركاته و كراماته، هذه الكرامات التي تتميز بعنصر
الطرافة و الإشارة إلى حقيقة عليا.. و يتداخل في الكرامة الحسي بالمعقول، الطبيعي
باللاطبيعي، الاعتيادي بالخارق. و كرامة الولي أو بركته هي قوة توجه إلى الأتباع
فتجلب لهم الخير أو تسلط على الأعداء فتجلب لهم الشر.
و الأولياء لهم تخصصات كمعالجة الصرع، أو مس الجنون، معالجة الشلل أو الخرس، أو حتى
السرطان، منح الأولاد لمن بهم عقم، منح الأزواج...
للاعيشة...
أو مكتب التشغيل
في إطار
ما تتيحه الظروف كان لا بد من القيام بزيارة ميدانية، من أجل الاقتراب أكثر من
ظاهرة الأولياء و معاينة و معايشة بعض الطقوس و كيفية ممارستها... و بحكم تواجدنا
بعين السبع {مدينة الدار البيضاء} وجدنا نساء في زيارة ضريح يسمى للاعيشة حيث يوجد
سور اسمنتي يحيط بالمكان في وسطه شجرة تين و في أسفلها حفرة كبيرة و خيمة... كان
يصعب الولوج إلى المكان خصوصا و أن المجال نسائي، و لا أثر للذكور بين الزوار...
إلا أن "نعيمة" التي كانت قريبة تراقب ما يحدث هناك، اقتنعت أخيرا
ووافقت على تقديم يد المساعدة، و شخصت بامتياز دور أخت لزميل معطل لم يسعفه الحظ
في إيجاد شغل {عندو عكس في الخدمة}. و لجنا المكان و تركنا النية خارج السور
الإسمنتي، استقبلتنا إحداهن و سألتنا عن حاجتنا ، ثم قدمتنا إلى رئيستها الجالسة
في صدر الخيمة محاطة بذوات الحاجات، طلبت "الشمع" ك "فتوح"
بعدما أفهمتها نعيمة أن أخاها {عندو عكس في الخدمة"، طلبت أن يجلس أمامها
مادا يديه مجتمعة، ثم وضعت فيهما قطعا صغيرة من الخبز { المحراش} و قليلا من أوراق
الحناء و الزيتوزن الأسود، و طلبت أن يفرغ الكل في إناء من الفخار مرددا "
أعطيتك من القليل أعطيني من الكثير" و في إناء آخر مماثل صبت الحليب و أمرت
بحمل الإناءين ... و رافقته إحداهن لقذف ما في الإناءين تحت شجرة التين مرددا: "
أعطيتك من القليل أعطيني من الكثير" و "اسقيتك من القليل اسقيني من
الكثير"... بعد ذلك جاءت إحداهن تدعي أنها بنت للاعيشة تحمل إناء من الماء و
تطلب غسل الأيدي ببركة جدتها و تطالب ب"الفتوح"... ثم هاجمنا حفدة
للاعيشة و هم يطلبون الفتوح و يتسولون النقود. و حفدة للاعيشة هم مجموعة من
المتسولين الذين يستغلون سذاجة الزوار للحصول على النقود و "النذور". و
قد علمنا فيما بعد أن بعض الشبان الذين يدعون أنهم أحفاد للاعيشة يقضون النهار في
تسول النقود باسمها، و في المساء يشترون بما حصلوا عليه الخمور و المخدرات...
غادرنا للاعيشة و تركنا حفدتها يتحرشون بجيوب الزائرات بعدما طلبت منا إحداهن أن
لا ننسى "المرفودة" عندما يتحقق المراد. علقت نعيمة بعدما ساهمت ببعض
الدريهمات" راهم كيضحو على عباد الله، و ياخدو ليهم فلوسهم، شوف هاديك المرا
اللي جايبة الفروج، كون أنا في بلاصتها ندبحو مع أولادي و ندير عليه شي قصرية ديال
الكسكسو دايزها الكلام".
يبدو
أن للاعيشة ليس لها إشعاع كبير، رغم الكم
الذي صادفناه هناك في يوم زيارتنا {الجمعة}. كما يبدو أنها ليست متخصصة في
مجال ما... و خلال تواجدنا هناك سجلنا بعض الملاحظات من بينها أن أغلب، إن لم نقل
كل الزبناء من النساء، و هذا ما يمكن أن يفسر بكون موضوع الزيارة ربما يكون هو
الحصول على زوج أو استرجاعه أو السيطرة عليه... أو ما شابه ذلك... كما أننا لاحظنا
حذر النساء و ترددهن قبل ولوج المكان و كأنهن تخشين أن يراهن أحد، و هو سلوك قد
يفسر بأن هنالك وعيا بأن العمل الذي يقمن به عمل غير مقبول {ما مزيانش}. كما يبدو
أن الزائرات من فئات و أوساط مختلفة... يجمعهن الاستنجاد بللاعيشة و طلب بركتها.
كيف يتحكم الأموات {الأولياء} بالأحياء؟
يتم
ذلك عن طريق التأثير الذي يمارسه الولي على الناس، بفعل امتلاكه لقوة سحرية، تجعل
مجرد استحضار اسمه يثير الخوف لدى البعض. لذلك يستعمل في اللغة العادية بعد ذكر
اسم الولي عبارات مثل: "نفعنا الله ببركته".. و يكون الولي محبوبا، و في
الغالب مهابا، مثيرا للخوف، سريع الغضب و التأثر. يصعب فهم قوانينه، لذلك يجب
"التسليم له" لاتقاء شره، فهو حارس للمجال، و بإمكانه الإساءة إلى من
يسيء إليه أو إلى المجال الذي يحرسه. لذلك فالدخول إلى المجال الذي يحميه الولي
يجب أن يتم بعد استئذانه و يكون ذلك "بالتسليم لرجال البلاد".
و
لا زال المغاربة يقبلون على زيارة الأولياء و الاعتقاد في قدرتهم الخارقة بشكل
يصعب تصديقه، إذ يظهر أحيانا صاحب كرامات يمكن أن يستقطب أكثر من ألف شخص يوميا.
شيء يصعب تصديقه لكنه واقع..
فأمام
الأزمات و المشاكل النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية أيضا لا يجد الناس بدا من
الاستغاثة بالأولياء خصوصا أمام عجز العقل، و قلة حيلة اليد. و قد تصبح زيارة
الولي عادة يدمن عليها بعض الناس... و الحاجة إلى الولي لا تظهر إلا حينما تظهر
مشكلة جديدة أو أزمة أو معاودة مرض للظهور...
ليست الأساطير المؤسسة لكرامات الأولياء وحدها
التي تجعل الأولياء- الأموات يتحكمون في الأحياء. بل إن الإنجازات المادية
الملموسة التي تتحقق أحيانا على أرض الواقع هي ما يدفع الناس إلى التسابق و تحمل
المشاق، و قطع المسافات الطويلة من أجل الفوز ببركته حيث نجد حكايات يصعب تصديقها
حول استرداد العقول و معالجة أمراض مستعصية كالسل و السرطان و الشلل... أشياء لا
يمكن تفسيرها باعتماد العقل و المنطق، لكن الواقع يؤكد وجود أشياء تفوق العقل و
تعجز العلوم !!! فعندما يعجز العلم في نظر البعض،
و ينتصر غيره تنبث البيئة الحاضنة للاعقل و للغرائبي...
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية