الحاجة إلى تخليق العالم {1}


الحاجة إلى تخليق العالم
 حوار مع Monique Canto – Sperber {الجزء الأول}

ترجمة: عبد الفتاح جنيني
هناك حديث متزايد عن ضرورة ملحة لتخليق العالم في مجالات شتى سياسية، اقتصادية، اجتماعية ... فحتى الحروب هناك حديث عن تخليقها، وهذا مؤشر قوي على وجود أزمة أخلاقية سواء من خلال الكم الهائل للعنف الذي يتخلل العالم والذي يهدد الوجود الإنساني نفسه أو في ارتباط بالحاجة إلى تأسيس قواعد إتيقية سواء على مستوى القطر الواحد أو على مستوى العالم ككل، من هنا تظهر أهمية هذا الحوار مع فيلسوفة انصبت اهتماماتها على القضايا الأخلاقية، فمونيك كانتو سبيربرتشغل اليوم مديرة المدرسة العليا ، ومديرة لمركز للبحث ونائبة الرئيس للمجمع الوطني الإستشاري للإتيقا. قامت بنشر عدة مؤلفات فلسفية سواء حول الفلسفة القديمة أو تلك المعاصرة التي تنصب على القضايا الأخلاقية والسياسية، تسعى في مؤلفاتها إلى تسليط الضوء على الفلسفة الأخلاقية التي لم تحظ بالاهتمام المطلوب في فرنسا، أشرفت على أبحاث تم نشرها في بريس دو فرانس حول الفلسفة الأخلاقية والقضايا الإتيقية، وعملت أيضا على التعريف بعدة فلاسفة أجانب غير معروفين في فرنسا مثل برنار وليامس، شارل لامور ...طرحت قضايا ذات راهنية في الفكر الأخلاقي المعاصر مثل قضية القتل الرحيم لبعض المرضى، الإباحية الجنسية، زواج المثليين...، كما أشرفت بشكل تام على إصدار قاموس حول الإتيقا والفلسفة الأخلاقية بيف 2001. انشغالاتها الفكرية تنصب حول التعريف بالمشاكل الأخلاقية التي يواجهها الفكر الأخلاقي اليوم وتقريبها لأكبر شريحة من المجتمع، لهذا أصدرت مع ريوناوجيان كتيب ماذا أعلم خصص للفلسفة الأخلاقية، تمحورت أبحاثها الفلسفية في الآونة الأخيرة حول الأخلاق في العلاقات الدولية و القضايا التي يطرحها التقدم البيولوجي على المستوى الطبي وما يطرحه من قضايا أخلاقية، وقد خصصت لذلك كتبا مهمة.
في هذا الحوار سيعمل محاورها على تفكيك جزء هام من مشروعها الفكري واستكناه عوالمه المجهولة للقارئ عبر تسليط الضوء على الكثير من القضايا التي تحظى بالاهتمام في الفكر الأخلاقي المعاصر .
إن الإتيقا اليوم تتحدد كموضة، لماذا هذا الاتهام المتزايد بها، هل هناك ما يبرر ذلك؟
إن النفع الكبيرالذي يمكن أن يكون للإتيقا اليوم يجعل هذا الاهتمام أمرا طبيعيا، فالإنسان المعاصر يزداد شغفه أكثر فأكثر لتبرير ممارسته، حيث يزداد الاهتمام بمسألة المعايير التي تحكم أفعاله، كما أن التقدم الحاصل على مستوى العلوم البيوطبية والتهديدات البيئية، و الرغبة المتزايدة لإقرار مبدأ عدالة دولية وما يطرحه ذلك من إرساء للمعايير الكفيلة بمعالجة القضايا التي لها صلة بالنشاط الإنساني، كل ذلك وغيره يؤكد هذا الاهتمام المتزايد بها. لكن الإتيقا تطرح أيضا كمعادلة للمعقولية  لتبرير السلوكات، حيث نلاحظ تزايد المجموعات الإتيقية وظهور إتيقا للأعمال بما في ذلك إتيقا حول المجال - العمومي -. من الأكيد أن هناك شغفا ملحوظا بالإتيقا ابتداء من نهاية الثمانينات لكن هذا التطور لا يعني بالضرورة حصول تطور عميق في الفعل الأخلاقي.
إذن الاهتمام والحضور في الفكر الأخلاقي هو جد مخفف مقارنة مع القضايا المطروحة
إن الفلسفة الأخلاقية لم تعمل حقيقة على استثمار هذا الشغف بالإتيقا، صحيح أن هناك اهتماما جديدا قد انبثق وظهر، وأن هناك مصلحة قد ولدت عن ذلك، لكن هناك الكثير مما يتوجب عمله ، ففي سنة 1992 نشرت مقالة بمجلة Déba. عدد 72 نونبر- مارس خصصتها للحديث عن واقع الفلسفة الأخلاقية في فرنسا حيث بينت شبه اختفائها، حيث يغيب النشر في هذا المجال كما لا تتواجد مراكز للبحث والدراسة المخصصة للفلسفة الأخلاقية. يجب اليوم الإقرار بأن الوضعية قد تغيرت، وعلى كل حال فمع وجود مؤلفات و مقالات لها صلة بها، يمكن القول أن  هناك انطلاقة جديدة للفلسفة الأخلاقية تلوح في الأفق، لكن حضور هذه الأخيرة لا زال محتشما ومجهولا سواء في الجامعة أو في علاقة الفلسفة الأخلاقية بالفعل الإتيقي الملموس. فمجموعات الإتيقا تتكاثر لكن قلة منها من يبذل الجهد الكافي ويلتفت إلى الفلسفة الأخلاقية ليخلق منها تعليما أو منهجا يقود تفكير الأفراد ويحكم تداولاتهم التي يتبعونها .....
ما الفائدة المرجوة من الفلسفة الأخلاقية ؟ ألا يمكن القول أنها تستهدف عملية توضيح المشاكل والكشف عن المبادئ ؟
إن الغاية من معالجة القضايا الأخلاقية التي نلاحظها اليوم تقوم على الحاجة إلى ضرورة ما يجب توضيحه سواء على مستوى الصياغة أو تعليل القواعد والمبادئ التي تعمل الكائنات البشرية على السير بموجبها في سلوكاتها. ومن الملاحظ  بصورة مثيرة أن هناك حاجة ملحة ومتزايدة للمتطلبات الأخلاقية سواء تعلق الأمر بصورة خاصة بنخبة ما أو بعض المهتمين، أو حتى بالمجتمع ككل. فضرورة الأخلاق تأخذ معنى قويا ليس فقط عندما تحدد الدواعي والمبررات العامة الكامنة وراء اتخاد قرار ما، أو عندما تسمح لهذه التقنية أو تلك أن تأخذ مشروعية ما كإعادة إنتاج - الاستنساخ مثلا -، إنها تتلاءم مع حاجة تتعلق بأن نجعل المبادئ التي تتخذ على أساسها القرارات متاحة ومبررة ومحل نقاش. هنا يمكن للفلسفة الأخلاقية أن تلعب دورها الأكثر عمقا، إنها ـ أي الأخلاق- تمكن من جعل الإرشادات التي تحدد الوعي الإتيقي المطلوب ليس مجرد قواعد أو إملاء لمبادئ يجب اتباعها ـ الشيء الذي يجعل القاعدة الأخلاقية بمعناها الضيق لا تحظى بكثير من الاهتمام- لكنها تستطيع إخراجهم من منطقهم وشروطهم وحتى من سياقاتهم وتجعل كل ذلك محط نقاش حقيقي. إن الفلسفة الأخلاقية تستطيع تأطير التداول الأخلاقي عبر تمثل مجموعة نصوص ومراجع وشرعات اتيقية تستوجب تحديد مجموعة قواعد و مبادئ  أخلاقية   يتحقق من خلالها حضور الأسباب والتبريرات التي يستندون إليها في سلوكاتهم.
في التقليد الفلسفي نجد حضور ا قويا للوعي الأخلاقي، لكن  ألا يبدو أنه أصبح متجاوزا من خلال المشاكل الأخلاقية التي تطرح اليوم والتي لها صلة بالعولمة والتهديدات الإيكولوجية أو تلك التي لها صلة بالتقدم التكنلوجي   ؟
إن هذا التقليد الفلسفي العريق الذي لازالت تتغدى منه اليوم الفلسفة الأخلاقية يبدو ذا أهمية ونفع كبيرين حتى عندما نعالج مشاكل أخلاقية جديدة. فالعلوم البيوطبية أعطت للكائنات البشرية قدرات جديدة للفعل، اليوم يمكن لزوجين كان يحكم، في السابق، عليهما بالعقم، أن تتوفر لهما إمكانية الإنجاب، لكن وفق أية شروط أو ضمانات وما هي الحماية المخولة لهذا الطفل المنجب؟. فهل من الضروري  ولادة هذا الطفل  يجب  أن تستجيب كلية لرغبة الآباء ؟ هل التدخل الطبي يجب أن تكون له حدود خاصة عندما يريد أن يقلد الطبيعة من خلال تحقيق إمكانية إنجاب -بواسطة الأنابيب- شبيهة لتلك التي تتحقق عن طريق المعاشرة الزوجية العادية؟ أو هل يستطيع الطب الذهاب إلى حد خلق جنين دون عملية تخصيب، جنين ناتج عن تحويل نووي أو ما يسمى اليوم بالاستنساخ ؟ 
أمام مثل هذه الأسئلة فإن تاريخ الفلسفة الأخلاقية لازالت له أهميته، لأنه إذا كان الاستنساخ هو تقنية جديدة فإن المشاكل الفلسفية التي يثيرها على خلاف ذلك جد قديمة، فهناك تقليد قديم حول التفكير في استقلالية الأفراد ـ مثلا حرية هذا الطفل المولود- فذلك له صلة بحرية وحدود التدخل في حياة الآخرين والتحكم في هويتهم، بطريقة أخرى هل يحق للآباء برمجة الهوية الجينية الخاصة بأطفالهم ؟ فبالنظر إلى طبيعة مجتمعاتنا الليبرالية والديموقراطية والتي تقوم على مبدأ احترام هوية الغير، فهذا المبدأ يبدو أنه في تراجع ...
لنأخد مثالا آخر معاصرا: المشاكل المتعلقة بالبيئة، هنا أيضا نجد التقليد الفلسفي جد مثمر ويسعفنا حول التفكير في طبيعة مسؤولية كل من له صلة بإتلاف البيئة، من البديهي أن الشخص الذي يمتطي سيارته بغرض الذهاب إلى السوق لا يمكن اعتباره مسؤولا بشكل مباشر عن تلويث العالم، لكن من جهة ثانية إذا كان الكل يمتنع عن استعمال طاقة ملوثة فلن يكون هناك تلوث عالمي، هناك مفارقة تطرح سؤالا فلسفيا قديما: كيف يمكن تحديد مسؤولية كل فرد حول ظواهر لا توجد إلا من خلال التراكم ، فلا أحد مسؤول بشكل فردي حول ما يهدد البيئة، لكن من الأكيد أن هناك مسؤولية مشتركة فلا أحد  يمكن أن يتنصل منها ...
يتبـــع .....
Les grands Dossiers des Sciences Humaines n°2 Mars-avril 2006.p34-35
Propos recuellis par CATHERINE HALPERN

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس