بقلم: الاعرج بوجمعة
يعود مفهوم الفضاء العمومي إلى الحقبة
الإغريقية؛ أي إلى النقاشات التي كان يخوضها الفلاسفة في ساحات أثينا القديمة بلاد
تلاقح الثقافات،
على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى النقاشات و الحوارات التي كان يخوضها
سقراط المتجول في الشوارع كتجسد للفضاء العمومي، لكن الفرق واضح بين الفضاء
العمومي الذي كان لدى الإغريق و الفضاء العمومي الذي نشأ في القرن 18، أول ميزة
يتميز بها فضاء القرن 18 هي و جود الحرية و الدفاع عنها ضد هيمنة الدولة و أجهزتها
القمعية، حيث كانت الصالونات الأدبية والمقاهي تستضيف هذه الظاهرة الجديدة المتصلة
بالاستقلالية الذاتية للفرد ضد إملاء الدولة. و عليه يمكن اعتبار المجتمع المدني
محايدا بالنظر إلى السلطة و الهيمنة، على سبيل المثال، يعتبر هابرماس أن الآداب
مسؤولة عن نشأة المجال العمومي، بفضل الصحف التي أنشأها المجال العمومي المتأدب؛
في إشارة كذلك إلى "الدور الجوهري الذي لعبته وسائل الإعلام المكتوبة في
الانتشار المبكر لنماذج اقتصاد السوق بعيدا عن مرتعها الأصلي، كما أن الطرق
التجارية التي كانت تنقل مسافات بعيدة كان لها دور الريادة في نقل المعلومات والأخبار
بنفس القدر الذي كانت تنقل فيه البضائع، كان التجار يحتاجون إلى المعلومة الثمينة
بخصوص الأثمان والطلب، لكن الصحف التي كانت تستجيب لهذه الحاجة بدأت تقدم معلومات
متفرقة أخرى، ساعدت نفس الصيرورة على توسيع قراءة الأدب بوثيرة سريعة وعلى اعتماد
وسائط جديدة؛ مثل الحروف المطبعية التي أصبحت قناة نشر معلومات ـ عمومية ـ في
بورصة القيم".
جعل هابرماس من مصطلح الفضاء العمومي مدخلا
جوهريا إلى النظرية الديمقراطية، فالسؤال الأساسي الذي يطرحه هابرماس هو كالتالي:
ما هي الظروف الاجتماعية التي تسمح بحوار عقلاني نقدي حول قضايا الشأن العام؟ و هي
قضايا يناقشها أشخاص ذاتيون يهدفون إلى اعتماد الحجج في اتخاذ القرارات بدل اعتماد
مبادئ سلطوية. و تعتبر هذه الدراسة بحثا في ذات الوقت عن معايير مثالية و فحصا
للتاريخ الفعلي.
لقد ظل الجدل قائما بخصوص القوانين
المنظمة للمجال العمومي: بين الحق الذي يمليه العقل؛ أي الذي ينظمه العقد
الاجتماعي، و الحق القائم على سلطة القوانين الموروثة تاريخيا عن الدول و الحضارات
السابقة. و قد اعتبر كانط أن الاستناد إلى ـ العقل العملي ـ الأخلاقي ضمانة كافية
لعتق الأفراد من سلطة الوصاية المملاة عليهم، و لا سيما في مجالات الطب والقانون و
اللاهوت. و التأويل الذي يقدمه كانط للتنوير على هذا النحو ليس تفنيدا مباشرا لمبدأ
"السلطة هي التي تصنع القانون لا الحقيقة"، بقدر ما هو انقلاب
على التمييز الوسيط بين الخاصة و العامة و خاصة الخاصة و ما إلى ذلك. فهو يعين
الجمهور على استعمال عقله بصورة ذاتية، "يمثل الجمهور منزلة ملتبسة، فهو من
جهة أولى غير راشد و لازال يفتقر إلى التنوير و لكنه يتأسس من جهة ثانية بما هو
جمهور في إطار دعوى رشد كل فرد مؤهل للتنوير (...) لا يتحقق الفضاء العمومي في
جمهورية المثقفين فقط، بل يتحقق من خلال الاستعمال العمومي للعقل بالنسبة لكل
الأفراد الذين يقومون بذلك". من هنا فالتحول الذي شهدته الأنوار هو التحاق
المثقفين و المفكرين مع العامة من الناس إلى منزلة المواطنين الأحرار المتساوين
أمام القانون، كما أصبح المواطنون يساهمون في التشريع بحكم وجود إرادة جماعية، على
نحو تعريف الإرادة لدى جون جاك روسو، هذه الإرادة هي التي تسهر على تشريع القانون
و جعله يتصف بالعمومية والكونية.
المجال العمومي حسب هابرماس "يحتل موقعا
مركزيا في الفكر السياسي المعاصر باعتباره مجالا للمناقشة و إطارا لمختلف القدرات
الفكرية على البرهنة و الإقناع، و الحل الرمزي للصراعات بنوعيها الداخلية و
الخارجية، و ليس بأي حال من الأحوال مجالا للعنف و الهيمنة و نفي الأخر و عدم
الاعتراف به" . فالتأويل الذي يخضع له هابرماس مفهوم الفضاء العمومي لدى كانط
ينبني على مسلمة أساسية تفيد أن الدولة الحديثة لا تحكم باسم سلطة دينية أو قبلية
أو باسم إيديولوجيا معينة. فهي تلتزم الحياد السياسي ما دام أن دورها ينحصر في
القدرة على التسيير والتدبير و الحكامة الجيدة. و بالتالي، فهي دولة تدير و لا
تحكم؛ و معنى ذلك أن تسيير الدولة لا يخضع بعد اليوم للسلطة السياسية بل يخضع
لضوابط أخلاقية (الصدق، المعقولية، الحقيقة، الدقة)، تعوض القانون الطبيعي للسلطة
بسلطة قوانين الحق.
يفيد مبدأ التعددية في الليبرالية أن تطور
المجتمع يؤدي بصورة متدرجة إلى تراجع سلطة الدولة، و إلى تزايد سلطة الأفراد
الواقعين خارج دواليب الدولة، هؤلاء الأفراد لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية و
الذاتية، بمعنى أن فهمهم للديمقراطية يتجلى من خلال أنها تقوم على تحقيق تكافؤ
الفرص بين الأفراد الذاتيين داخل دولة محايدة، و يرجع الفضل بخصوص هذا الفهم
للفضاء العمومي إلى التصور البورجوازي، " لذا فنوع السلطة المقبولة عند الأفراد الذاتيين هي العلاقات القانونية
الناجمة عن إمكان وجود إلزام متبادل ومتوافق مع حرية كل فرد، ووفق قواعد
كلية". في هذه الحالة نجد مبدأ كانط الذي يفيد أن حريتي تنتهي عندما
تبدأ حرية الآخرين؛ يعني أن تقييد الحرية يتحقق باسم الحرية ذاتها وليس
باسم السلطة، على خلاف المبدأ المضاد الذي يفيد "أن السلطة هي التي تصنع
القانون لا الحقيقة"؛ أي قانون يستند إلى حجة السلطة وليس سلطة الحجة. هذا
القول يكشف عن نوع الحرية التي يشرعها كانط داخل الفضاء العمومي، حرية يجد لها سندا
داخل الذات، هذه الأخيرة هي التي تسن القوانين و الحقوق، على اعتبار أن بإمكان هذه
القوانين أن تصير قاعدة كونية و سلوك كوني يسري على الجميع، احتكاما إلى القاعدة
التالية: "اعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك..."، فكان فحص هابرماس
لمسألة الحق عند كانط، بقوله بأنه "لا يمكن تأسيس الحق على مجرد العقل بوصفه
المحكمة العليا للتشريع، كما بين هابرماس انه من الصعب الاكتفاء بمفهوم التحديد
الذاتي الذي يسمح للذات المستقلة بأن تشرع لنفسها قوانينها الخاصة، مثلما أنه من
الصعب التوفيق بين حرية الفعل و الإكراه القانوني، من دون إرساء منظور تواصلي يسمح
بإيجاد معايير مشتركة، تكفل للشركاء الاجتماعيين وضع آليات للتخاطب و قواعد
للحوار، و توظيف أساليب المناظرة و الحجاج بغية الوصول إلى تشريعات تحظى بالتوافق و
التفاهم" . هذا القول يعكس الدور الذي لعبه الفضاء العمومي في إلغاء الحواجز
الجمركية بين الذوات، فلم تعد الذات تصوغ القانون من علياء السماء المتعالية كما
قال كانط، و إنما أصبحت الذات تبني و تحاجج مع ذوات أخرى في فضاء عمومي تحكمه
مجموعة من الضوابط و الأخلاقيات، الهدف منها الإقناع و إتاحة الفرصة للجميع في أن
يدلوا بدلوهم.
ما يعاب أحيانا على تصور هابرماس للفضاء
العمومي أنه ظل حبيس التصور الحديث للفضاء العمومي في واجهته الليبرالية، و حاول
أن يجيب على النقد الذي وجهته إليه نانسي فرازر المتمثل كما تقول
"وقف ـ هابرماس ـ عاجزا أمام ضرورة تطوير نموذج جديد للفضاء العمومي يتجاوز
من خلاله الفضاء البرجوازي...". كما حاول تعميق تحليله للفضاء العمومي
الموالي للحقبة البرجوازية بغية مواجهة تحديات العولمة، و تشير بولين جونسون
إلى أن "هابرماس ألح على ضرورة إنشاء مجال عمومي كوني في أقرب
الآجال..."، بالنظر إلى مشاكل الأمية والفقر والأوبئة. قد نوافق هابرماس على
موقفه الذي يفيد أن " فضاء عموميا كونيا يمثل الحل الوحيد والأنسب، كما انه
مقتنع بوجود حجج كافية تدفع إلى الاعتقاد بأن هذا الطموح الطوباوي جدير بالاهتمام
و البحث".
لكن هابرماس يبرز كذلك أن مثل هذا المشروع
الطوباوي مطالب بالتخلي عن أفكار ـ الهوية الوطنية ـ و ـ وحدة المصير ـ بما أنها
أفكار تتعارض مع ـ الوطنية الدستورية ـ كما تتناقض مع القواعد الكلية التي يقوم
عليها التعايش بين الكائنات البشرية. يتوجب على السياسة العالمية الجديدة أن تناضل
من أجل تحقيق مشروع ديمقراطي للرفاهية على المستوى الدولي، ثم يضيف يجب ترجمة حقوق
الإنسان، و ترجمة الحق في المشاركة السياسية إلى نصوص تعترف بالحق في
"الاستمتاع بالحقوق الاقتصادية و الثقافية". هذا كله لن يتأتى في نظر
هابرماس إلا بتضافر الجهود و الحرص الدائم على إنشاء فضاء عمومي يتجاوز الحدود
القطرية؛ أي فضاء يلغي الحدود الجمركية بين البلدان، بمعنى يلغي العنصرية حتى على
مستوى اللغة (دول الشرق ـ دول الغرب)، (دول الاتحاد الأروبي ـ دول العالم الثالث)،
بل يجب أن نتحدث عن الدولة ـ الأمة؛ أي الدولة الكونية التي تغيب فيها الحدود، كما
نظر إليها كانط و فهمها يورغن هابرماس.
* اعتمدنا في إنجاز المقال على:
§
محمد المصباحي: "فلسفة الحق كانط و الفلسفة المعاصرة"،
مقال: عز العرب لحكيم بناني: "مفهوم الفضاء العمومي بين كانط
وهابرماس" منشورات كلية الآداب ـ
الرباط، 2007، ص94.
§
محمد نور الدين افايه: "الحداثة و التواصل في الفلسفة النقدية
المعاصرة ـ نموذج هابرماس"، افرقيا الشرق، ط. الأولى. ص94.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية