بقلم : يوسف عشي |
الفكر السياسي في الفلسفة الحديثة
إشكالية السلطة والحكم
(نموذج: ماكيافيللي - روسو)
الجزء الأول
استهلال:
" العنصر الأول، أنه يوجد حقيقة حكام
ومحكومين، قادة ومنقادين.إن كل هذا العلم والفن السياسي يتأسس على هذه الواقعة
الأولية التي يتعذر اختزالها.." غرامشي
"إن
السياسة لم تتغير ولن تتغير، وذلك لأن بنية الإنسان هي نفسها دائما.." ألان ALAIN
"
منذ مائة عام يعلن البعض عن ذبول الدولة ونهاية السياسة...إلا... أن مصيرنا الزمني
يخضع أكثر من أي وقت مضى لقرار مزعج يمكن للإرادة السياسية أن تتخذه" جوليان
فروند
تمهيد:
إن
الفكر السياسي هو أحد أشكال الأعمال الفكرية حول وضع الإنسان في المجتمع، والذي
ساهم
بقوة في صنع الحضارات. فهو ينسق ويربط بين التمثلات أو الأفكار التي لم يكن بإمكان العقل- ولا يمكن له- إلا أن يكونها عن الظاهرة الأساسية والخطيرة التي تسمى ب"السلطة"، والتي وصفت صراحة أو ضمنا ب"السياسة".
بقوة في صنع الحضارات. فهو ينسق ويربط بين التمثلات أو الأفكار التي لم يكن بإمكان العقل- ولا يمكن له- إلا أن يكونها عن الظاهرة الأساسية والخطيرة التي تسمى ب"السلطة"، والتي وصفت صراحة أو ضمنا ب"السياسة".
وليس
هناك، من جهة أخرى، ما هو أكثر دلالة من الواقعة التالية: إن كلمة
"السلطة" التي يوجد لها بمعناها الواسع العديد من الأشكال المختلفة
تتعلق بشكل طبيعي وإذا ما استخدمت بدون نعوت إضافية بالسياسة أو بالإنسان السياسي.
إنها تتعلق بشكل طبيعي بالإنسان السياسي عندما يصبح، في خصوصيته التي يتعذر
اختزالها والنابعة من جوهره، موضوعا كليا للتفكير.
لماذا
هذا التمايز بين المحكومين والحكام ؟ أو أصحاب السلطة؟ الذي يفترضه مفهوم الحكم
نفسه بمعناه الواسع؟ ما هي القيم التي يمكنها أن تضفي طابعا شرعيا على طاعة أولئك
لهؤلاء؟ وترسخ بالتالي أسس "الإلزام السياسي"؟ لماذا يحتكر هؤلاء الحكام
القهر والإكراه المنظم والشرعي أو ما يسمى بالإكراه العام؟ لماذا توجد سلطة الكلمة
الأخيرة المسماة ب"السيادة"؟ماذا تعني هذه السيادة بدقة؟ وماذا تتضمن
بالضبط؟ ما هي الغايات التي يسعى لها عمل السلطة، والتي يجب أن يسعى لها؟ ما هي
الحدود التي تصطدم بها هذه السلطة إن كانت هناك حدود؟ ما هي أشكال الحكم المختلفة؟
وما قيمتها؟ وهل يوجد شكل مثالي أو على الأقل الشكل الأفضل الممكن؟
يبدو
أن الأسئلة الرئيسية التي تطرحا ظاهرة السلطة هذه، لا تنفصل في الواقع عن السياسة.
لقد أجبرت هذه الأسئلة الشائكة والصعبة والتي يستحيل، بلا شك، على العقل حلها
بطريقة حاسمة، لأنها تجبره على مجابهة القوى الحاضرة في اللعبة، وعلى إعدادها
ووزنها والموازنة بينها، وعلى الانحياز لبعض "القيم" والغايات.
ولئن
تغيرت الحلول التي قدمت، وتتغير حسب الزمان والمكان ( سواء في الفكر المجرد البحث،
أو تحت الضغط الملموس للظروف)، فهذا ما يمكن فهمه بسهولة. لقد خضعت هذه
الحلول، ولم يكن بإمكانها قط أن لا تخضع، لتأثير مزدوج: تأثير السياق الفكري
العام. وتأثير سياق المؤسسات.
لمحة تاريخية:
إن
للفكر السياسي تاريخا خاصا يدخل في نطاق التاريخ العام، وهذا التاريخ الخاص هو أحد
فروع التاريخ العميقة، والأكثر أهمية من التحركات السطحية الأكثر ظهورا للعيان.
إنه تاريخ عني بمضمونه الفكري وزاخر، في نفس الوقت،بنتائج مباشرة وغير مباشرة على سلوك الإنساني.
إنه
من الممكن إيجاد أصول بعيدة ومظلمة لهذا التاريخ في ا لحضارات الكبيرة في آسيا،
وفي حضارة "إمبراطورية مصر القديمة" المثيرة للإعجاب. ومع هذا فإن الفكر
السياسي- حسب النظرة التقليدية القديمة التي رفضت من قبل الكثيرين باحتقار- لم
يبدأ حقيقة وبشكل جدير بهذا الاسم إلا في إطار الدولة المدينة La cité Etat في اليونان القديم. وهو إطار
ضيق، لكنه ملائم بشكل فريد لتطبيق "الملكة العقلانية" على قضايا
السلطة،وبالتالي السياسة، الممارسة الحرة لهذه الملكة في ميدان محظور تقريبا في أي
مكان آخر.
فيما
بعد، استمر هذا الفكر ضمن الإطار الشاسع للإمبراطوريات ذات النزعة العالمية، وهي
إمبراطوريات كان عليها، من الإسكندر إلى قسطنطين الذي التقى بالمسيحية، ثم من شارلمان إلى أسرة هنستوفن المخيفة بالنسبة
للبابوية، أن تظهر وتختفي لتدع المجال لتلك المجتمعات القومية الخاصة المسماة
بالدول-الأمم Etats-
nations أو الأمم- الدول Nations – Etats
المتعطشة ل"السيادة" حينذاك، وضمن هذا الإطار الجديد النهائي ظاهريا بدأ
الفكر السياسي يتمرس وينشر بغزارة وقوة متجددتين، وأخذ يتنوع ويغتني باستمرار.
وراح يلهم أعمالا جديرة بأن تحتل في الأدب السياسي العالمي مكانا من الدرجة
الأولى، كما هو الحال في العصور القديمة بالنسبة لأعمال أفلاطون، أرسطو، الفارابي...
أعمال كأعمال ماكيافيل، بودان، هوبس، لوك، منتسكيو، وروسو...من بداية القرن 16 م وحتى عام 1789م التاريخ
المثقل بالقدر.
ثم
إن كل ما تبع ذلك منذ 1789م وحتى أيامنا هذه، وعبر ما يزيد عن قرنين، من
مجريات التاريخ كالانقلابات الاجتماعية والسياسية، والصراعات الدولية على صعيد
متجاوز أكثر فأكثر للحد، والثورات في
التقنيات التي أصبحت ممكنة بفضل التقدم السريع للعلم، لم يقم إلا بتنشيط الجهد
الفكر المطبق على قضايا السلطة، ومن خلالها على تنظيم الشأن العام(الدولة).
لهذا
سيكون تركيزنا- خلال هذه المساهمة - على تلك الأعمال السالفة الذكر، وذلك للإبراز
ملامح التفكير السياسي وتناوله لإشكالية السلطة والحكم. وذلك من خلال نموذجين
يشكلان علمان من أعلام الفكر السياسي في الفلسفة الحديثة، وهما : نيقولا
ماكيافيللي، وجون جاك روسو. وسنراعي في تناولنا لهذين المفكرين السبق الزمني.
فنبدأ مع ماكيافيل ثم نعرج بعد ذلك على جون جاك روسو.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية