مداخلة فلسفية المتناهي واللامتناهي

 

مداخلة فلسفية المتناهي واللامتناهي



 د علي محمد اليوسف



توطئة

يمكننا البدء بإدانة هيجل في اختلاقه فكرة المطلق العقلي الواقعي الذي يحتوي كل شيء في الوجود. فهو كان اختلف مع اسبينوزا من منطلق أنه لا يؤمن بوحدة وجود تقود الى إيمان ديني بوجود خالق هو جوهر لكل موجود كما أراد اسبينوزا إثباته، والحقيقة أصبح مذهب وحدة الوجود تتوزعه العديد من الاجتهادات التجاذبية بين الديني واللاديني، بين الروحي والنفسي، بين المتناهي واللامتناهي، بين الصوفية الدينية والفلسفة.

(1)المتناهي واللامتناهي

التفكير متناه في محدودية القدرة على معرفة وفهم أشياء من العالم وليس كل العالم.  ويكون التفكير الخيالي خاملا حسب توصيف ديفيد هيوم كونه يستنفد نفسه قبل تمام إدراك مواضيعه المستمدة من عالم لامتناه. لا يتمكن التفكير الخيالي التموضع الكامل لإدراكه اللامتناهي. عن هذه الحقيقة يعبّر ديكارت "ربما يوجد ما لانهاية له من الاشياء في العالم، وفي المباينة مع ذلك فليس عندي في الفاهمة أية فكرة عنه".

ليس بعيدا ولا غريبا تكرار المقولة الفلسفية أن ما يعرفه الانسان ليس أكثر مما يدركه فعلا. في محاولة المتناهي المحدود معرفة اللامتناهي المطلق محاولة عقيمة لا معنى لها, فالتفكير الخيالي لا يستطيع فهم أشياء لا تكون لها معرفة صورية حتى بالتعريف البسيط لها بالذاكرة... يصف ريكور الإرادة بأنها ذات سعة ومجال بلا نهاية.

الإرادة لها سعة ومجال تفكيري بلا نهاية صحيحة، لكن فاعلية الإرادة التخييلية إنما تكون في المتحقق المنجز لما تقصده وتبتغيه.. ويقصد باللامتناهي المطلق فلسفيا هو الخالق غير المدرك بصفاته ولا ببعض ماهويته الافتراضية الذاتية. هذا اللامتناهي الذي لا يمكن الإحاطة به. أما المتناهي فهو المدرك الذي يمكننا تحديده بالمقارنة مع متناهي آخر يشاركه المجانسة النوعية. ومن الصعب استطاعتنا تحديد اللامتناهي لأننا نحتاج الى حده بشيء يجانسه النوع وهو محال. أي يتعذر تحديد اللامتناهي بشيء يمتلك قدرة المداخلة الجدلية مع المتناهي. هنا أود تثبيت نقطتين لماذا نستطيع إدراك المتناهي ولا نستطيع إدراك اللامتناهي؟

إدراك المتناهي هو إدراك لشيء متعّين محدد بخواص المادة التي تدركها عقولنا (الطول، العرض، الارتفاع، الزمن). وهو ما لا ينطبق على اللامتناهي الذي لا يمتلك مثل هذه الصفات التي يدركها العقل. والسبب الثاني أن كل محدود هو سلب بتعبير اسبينوزا وهيجل، أي كل محدود يفقد العديد من الصفات الايجابية التي يمتلكها لحساب تعينّه المادي السلبي. فاللامتناهي لا يخضع لتجريد عقلي يدركه بتحديد صفات له هو لا يستطيعها اولا ولا مدركة من قبل العقل أيضا.

أمام هذا المعنى أثار لا يبنتيز طرحا إشكاليا معتبرا " كل معنى محدّد، أيّا كان، وكل معنى لا يحتوي المتناهي هو معنى مجرد ناقص". كون الإدراك العقلي تعتريه المحدودية وتحكمه إدراكيا.

هذا التداخل الإشكالي الذي يقيمه لايبنتيز على منطق رياضي هو المتواليات العددية والمتواليات الهندسية التي لها بداية ولا تكون لها نهاية. فهي تكون بحكم اللامتناهي الذي تختلف مع كل متناه مدرك بالمجانسة النوعية.  وهو حكم رياضي لا يمكننا تعميمه على مدركاتنا الاشياء وموجودات العالم الخارجي، فهذه تكون محدودة انطولوجيا متناهية وتحتويها لا متناهيات وجودية.

أما رأي كانط الذي يرى الناس كائنات متناهية يعيشون في عالم لا متناه يجب أن يكون هذا اللامتناهي محدودا بزمان وإلا أصبح   وجودا يمكن الإحاطة بإدراكه ولو جزئيا. لو نحن حاكمنا عبارة كانط بفهم اسبينوزا الذي يرى أن الموجود بغض النظر عن كونه متناهيا أو لامتناهيا لا فرق فهو يدرك بدلالة الجوهر، ولا يدرك الجوهر بدلالة الوجود. بهذا المعنى تكون أطروحة كانط في إمكانية الإحاطة بمحدودية اللامتناهي بمحدودية الزمان الذي يحتويه خاطئة تماما كون الزمان مخلوقا أزليا يكون لامتناهيا لنا نحن البشر لكنه متناهيا مخلوقا من لامتناه لا ندركه هو الله . جعل انشتاين الزمن بعدا رابعا من أبعاد المدرك الشيئي المكاني الموجود يعود لإدراك العقل الذي يفهم ويدرك ما هو مكاني بدلالة زمانه.

ونختم بعبارة ثانية لكانط يقول بها" ليس للعالم بداية ولا حدود بل هو لامتناه. والزمان الذي يحد العالم يتوجب أن يسبقه زمان له بداية، وبداية الزمان هي فراغ كلي وإذا لم يكن للعالم بداية ولا حدود فهو لامتناه. إن ما يلفت النظر أن كانط لا يحدد مقصوده الدقيق بالعالم هل هو الكون الميتافيزيقي أم العالم الانساني على الأرض؟

(2) فيختة والأنا

أراد فيخته تذويت ألأنا بموضعته في منحيين متلازمين في وضعه المتناهي مقابل الأنا اللامتناهي كتضاد غير جدلي من جهة وغير تكاملي متناه من جهة أخرى، والتساؤل هنا هو هل من المتاح جمع نوعي الأنا بعلاقة تخدم تصوراتنا الفلسفية أو حتى رؤيتنا في منحى معيّن أم لا يتاح مثل هذا الافتراض؟ جمع مثل هذا التضاد بأي نوع من العلاقة غير متاح حتى على صعيد التجريد الفلسفي المنطقي.

حين يأخذ هيجل عبارة اسبينوزا )كل تحديد هو سلب)  هذا يعني أن المتناهي الذي يحمل صفات معينة حين نريد أن نحدّه قسرا كي ندركه ضمن بنية كليّة عينية فإننا نكون سلبنا من الانا معظم الصفات التي كانت تمتلكها وهي متحررة من التحديد السلبي الذي يعني المحافظة على بعض صفات هذا التحديد لشيء بما يخدمنا وليس بما يخدم تحديد الانا ضمن مدرك خصائصي معيّن تكون تابعا له.  الأنا المتناهية هي الأنا التي تم تحديدها وبذلك فقدت الكثير من صفات تكتمل كينونتها بها.

الأنا هي تموضع ذاتي بالأشياء التي لها حدودا تقف عندها بفقدانها السيطرة على فرديتها التي فقدتها في تحديدنا المتناهي لها.  كل تحديد سلب عبارة اسبينوزا ومن بعده هيجل هو التضحية المقصودة في تشتيت الصفات الإيجابية التي كان يمتلكها الشيء قبل التحديد.  ولو نحن سحبنا هذا المقياس تعميمه على المادة كوجود مستقل جرى تحديده بعوامل ذاتية خاصة أو عوامل طبيعية موضوعية فهذا يدخلنا الى وجوب التفريق بين صفات الشيء ومحتواه الماديهنا لا نقصد بالمحتوى الماهية أو الجوهرأي علاقة الشكل والمحتوى ومن يمتلك تأثير الاسبقية في انقياد الآخر لأحد طرفي الشكل أو المحتوى، التي تكون في كل الأحوال علاقة طردية وليست علاقة تناسب عكسية، بمعنى ما يكتسبه الشيء من صفات شكلية مضافة له تنعكس طرديا على محتواه والعكس صحيح أيضا. تحديد السلب ليس نفيا كاملا لصفات الايجاب التي افتقدها الشيء في سلبه التحديدي له وأفقده التحديد إياها، يمكننا القول أن كل تحديد هو لامتناه على عكس ما أريد له في تحديده امتلاكه لصفات دون أخرى. تحديد السلب لامتناه ادراكي يفهم ذاته بدلالة صفاته السلبية فقط، لا ينفي ما فقده من صفات بل يؤكد على صفات لامتناهيه ايجابية في عدم الإدراك لها.

أما في حال تفكيرنا جعل الأنا المتناهية تأخذ موقف التضاد الجدلي مع اللامتناهي فيكون الأمر مستحيلا حتى على صعيد الاحتواء في العلاقة، فالمتناهي حين اكتسب صفة التحديد السلبي يكون أصبح فاقدا المجانسة النوعية التي تجعله متلازما ديالكتيكيا مع اللامتناهي الذي يمتلك مجانسة نوعية لا تجعله يحتوي الأنا المتناهية ولا حتى الدخول معها في تضاد مثمر ينتج عنه مركب ثالث لظاهرة جديدة مستحدثة أو كليّة بنيوية مغايرة لأصل قطبي الديالكتيك الذي هنا في مثالنا لم يحصل ولم يتحقق عنه شيئا كون الديالكتيك هو تضاد داخل المجانسة النوعية.فمثلا أنا الانسان في أي صورة أو شكل من الاشكال هي عليه لا يمكنها الدخول ديالكتيكيا مع أي شيء لا يحمل المجانسة النوعية معها.

(3) هيجل مطلق وحدة الوجود مع المايا

هيجل يؤمن بمذهب وحدة الوجود باختلاف عن كل من :

         مبدأ وحدة الوجود الفلسفية كما في رائدها اسبينوزا

         مذهب وحدة الوجود كما في الصوفية والاديان التوحيدية

         مذهب وحدة الوجود في المايا الهندية والزن والبوذية.

هيجل طرح وحدة الوجود على أساس العالمين الارضي والكوني هما مطلق في وحدة أصلية هي الفكرة المطلقة التي تقوم على الإدراك العقلي وليس على الحدس الميتافيزيقي الذي يرى في تحقق الايمان الديني بوجود الخالق الجوهر الكلي التام الشامل المطلوب من الدعوة لوحدة الوجود.. أراد هيجل الاقتراب كثيرا من فلسفة وحدة الوجود كما يفهمها اسبينوزا بفارق جوهري أن كلا الفيلسوفين يؤمنان بمطلق، هو في فلسفة هيجل مطلق كوني عقلاني يحتوي الواقع عينيا وليس ميتافيزيقيا كما يرغبه اسبينوزا، وهيجل لا يؤمن بوحدة الوجود من أجل البرهنة على وجود الخالق بل البرهنة على أن العقل يمكنه إدراك العالم كاملا وما لا يدركه العقل يكون النقص فيه وليس في المطلق الوجودي الذي يريد أن يحتويه. هيجل لا يرى في المطلق لانهائية لا يمكن إدراكها، فالمطلق الذي يحتوي الواقع جزءا منه يكون مدركا بموجوداته وليس بجواهره غير الموجودة كما يرغب اسبينوزا. هيجل لا يرى في العالم مدركا منفصلا قائما لوحده، ولا المطلق عالما لا يدرك بل كلاهما عالم واحد يدركه العقل.

الهنود الصوفية في المايا ينظرون الى مذهب وحدة الوجود بطريقة يراها هيجل فجّة حينما يعتبرون العالم من حولنا وهما غير حقيقي زائل، ومتناه لا تحتويه فكرة المطلق، وإذا نحن أعطينا أنفسنا حق التوّسع في هذا المعنى، فالمطلق ليس عدما بمعنى مدلول بغير دلالة محتوياته. لذا إدراك عالمنا حسب المايا الهندية أنه وهم مستقل عن مطلق لا يحتويه بخلاف هيجل الذي يرى بالمطلق محتوى للطبيعي الارضي والكوني بإدراك عقلي متعيّن. الهنود لا يرون بالمطلق فراغا افتراضيا لا يتحكم بالعالم الوهمي. لذا وجدنا هيجل ينكر على المايا الهندية فهمهم القاصر لمعنى وحدة الوجود. والسبب ليس في نكران هنود المايا للفكرة المطلقة التي يفسرها هيجل على أنها جزء من عالمنا الإدراكي الحقيقي... المطلق عند هيجل عقل بدلالة مدركاته وليس افتراضا ميتافيزيقيا لا يمتلك حضوره.

هيجل يمارس النزعة المادّية بلبوس مثالي صرف لا ينكره على فلسفته مع كل من فلسفة اسبينوزا الروحانية الصوفية، التي يمارسها بنفس المنطلق مع روحانيات هندية لا يرى لها معنى. فنجده يسوّق المطلق الذي يمتلك كل الامكانات والقابليات بحدس روحاني ليس أصدق من روحانية اسبينوزا والهنود على السواء في فهمهم وحدة الوجود.

عمد الهنود في تسويقهم عالمنا وهم لا يوجد غيره زائل غير محكوم بسلطة مطلق ولا سلطة خالق يهمه أمره. لقد أراد هيجل تحديد المطلق في استيعابه إدراك الواقع الأرضي، بنفس وقت أراده أن يكون مطلقا لامتناهيا في إدراكه الكوني الذي يدركه العقل. كان يريد هيجل إثبات أن العالم من حولنا دون مطلق يحتويه غير موجود ولا قيمة له. وينكر على متصوفي المايا الهندية رغبتهم إيقاف عالمنا بالتضاد غير الجدلي مع المطلق لفقدان المجانسة النوعية بين المتناهي واللامتناهي. في نكرانهم أن يكون عالمنا ليس سوى وهم زائل لم يعطوا بهذا النفي معنى لوجود مطلق يدرك عالمنا ويحتويه وهذا بالضد تماما بما يرغب هيجل تحقيقه. المايا الهندية توقفوا في مداركهم الصوفية في وحدة الوجود أمام حقيقة أننا لا نمتلك غير عالمنا الوهمي الزائل الذي نعيشه، في حين حاول هيجل جعل المطلق اللامتناهي مدركا واقعيا لا يساوي ولا يشبه عالمنا لا بالصفات ولا بالماهية المحتواة فيه بل فقط البرهنة أن عالمنا حقيقي ندركه ويدركه المطلق معنا الذي نحن جزءا منه.

حسب الدارسين لفلسفة هيجل يرون أنه ربما أراد فهم المطلق على أنه روح كامل باق منذ الازل لا بداية تسبقه ولا نهاية تدركه، ولا يعتمد الموجودات الطبيعية في البرهنة على وجوده الخاص به .

(4) بين هيجل وبيركلي

باركلي امتداد أكثر تطرفا لأفكار اسبينوزا باختلاف فهمهما اللاهوت المسيحي، اسبينوزا لا يؤمن بالمعجزات الدينية، وكان مذهب وحدة الوجود هو وسيلة برهانية لإثبات وجود الخالق. باركلي كان يؤمن بوجود الله بتشدد كبير، ولم يكن بيركلي يتبنى صراحة إدراك الخالق خارج الفهم اللاهوتي المسيحي. بيركلي ينتمي الى الطائفة المؤلهة الانجليز الذين لا يؤمنون بالتثليث. المهم أن هيجل كان أكثر قربا من اسبينوزا، ويؤمن بوحدة الوجود ليس بالفهم الديني اللاهوتي أو الصوفي، ولم يشغل اهتمامه بفلسفة إثبات وجود الخالق،