مداخلات فلسفية: التحليلية المنطقية الانجليزية أنموذجا

 

مداخلات فلسفية: التحليلية المنطقية الانجليزية أنموذجا

                                                        28 دجنبر 2020

د علي محمد اليوسف

تقديم

كنت في مقالة سابقة (الفلسفة التحليلية الانجليزية) اشرت على قدر المستطاع ثغرات الفلسفة التحليلية، ونزعة تجيير ريادة فلسفة التحليل اللغوي لها، وطموحات سقفها العالي الذي لم يتحقق منه القليل، في محاولتها وصول هدف تخليص تاريخ الفلسفة من سقوطها الموغل بالأخطاء المتراكمة القائمة على مخاتلة اللغة وخداعها في عدم التعبير الصادق عن القضايا الإشكالية المعلقة بالفلسفة على مدى قرون طويلة. وارتأت التحليلية الانجليزية الاضطلاع بمهمة المعالجة والتصحيح، فكانت جهودها الاستعراضية بهذا المجال أسقطها في مشاكل عزلة المنطق اللغوي في وقت أعلنت فيه عن نفسها الفلسفة الرائدة الأم لكل الفلسفات السابقة عليها قاريّا.

ادعاء ريادية قيام التحليلية الانجليزية بدور الفلسفة التي تتوخى فرض نفسها على مباحث الفلسفة الحديثة والمعاصرة في فلسفة اللغة، في وجوب اعتماد منهج التحليل النقدي المنطقي اللغوي لتصحيح مسار الفلسفة الذي أكتنفه الغموض وفقدان بوصلة الاتجاه الصحيح في معالجة مباحث ومفاهيم الفلسفة الموروثة المغلوطة. هذه الريادية لم تكن تمتلك مقومات استئثارها المتفرد الذي كان أصلا مشتتا بين الواقع والطموح في فلسفات وتيارات غطّت دول أوربا والولايات المتحدة.

من المسائل التي نجد أهمية لها فرش أرضية عرض اختزالي لما أرادت التحليلية الانجليزية أنجازه ولم تثمر جهودها بذلك وهي:

-         لم يكن منهج التحليل بالفلسفة يمثل فتحا جديدا من حصة فلاسفة الانجليز حصرا بل كان له وجودا تاريخيا سابقا على فلسفة التحليل الانجليزية. فمنهج التحليل اعتمده السفسطائيون ما قبل سقراط. وأعتمده العديد من فلاسفة اليونان مرورا بجميع عصور الفلسفة تاريخيا. وصولا الى الفلسفات الحديثة في دول أوربا وانجلترا وأمريكا، ما وضع ريادة التحليلية الانجليزية في ادعاءها فرادتها وسبقها الريادي الاولي لمنهج التحليل لا يقوم على سند حقيقي وسط هذا التشتت الفلسفي عالميا وتاريخيا.

-         اعتمدت كل فلسفات التحليل في أوربا وامريكا مركزية تحليل اللغة بالاعتماد على فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى. ومنهج التحليل اللغوي ليس منهجا مفهوميا ولا مصطلحا فلسفيا غير متفق عليه، باستثناء حقيقة التحليل الفلسفي يقوم على مبدأ تحليل معنى اللغة. لكنما الاختلافات الفلسفية العميقة ظلت مزامنة التحليل في تنوع مضامين تلك التيارات الفلسفية.

-         اصطدام فلسفة التحليل الانجليزية بجدار العلم الطبيعي التجريبي عندما حاولت التحليلية اعتماد تحليل اللغة بمنهج يقوم على ربط كل من المنطق والرياضيات بالعلم الطبيعي، وهذا التوجه كان أشار له جوتلوب فريجه في مؤلفاته العديدة في الرياضيات. ولم تأخذ التحليلية بمبدأ أن مسار العلم الطبيعي مع الفلسفة هو مسار التوازي وليس التقاطع ولا حتى التداخل، لذا كان طموح التحليل التداخل مع قضايا العلم الطبيعي ليست سهلة ولا متاحة ببساطة فلسفية حينما غرقت التحليلية في تحليل نحو اللغة وقواعد التعبير بغياب تحليل قضايا الفلسفة.

-         اختطت فلسفة تحليل اللغة في أوربا فرنسا والمانيا على وجه التحديد، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، مسارات عديدة ومتباينة حد الاختلافات العميقة، بعيدا منفصلا عن الميراث الريادي الذي نسبته التحليلية الانجليزية لنفسها. ومن الجدير ذكره أن تقاطع تحليلية الأمريكان كانت مزدوجة في انفصالها التام عن تحليلية الأنجليز من جهة وتحليلية فرنسا من جهة أخرى وسبب ذلك هو توجه الفلاسفة الأمريكان وضع كل فلسفات أوربا الحديثة والمعاصرة في فلسفة اللغة والتحليل في خدمة هدف أعادة الحضور المنسي للبراجماتية الأمريكية الفلسفة العجوز على أرضها الجغرافية في هجرة الفلاسفة الاوربيين أليها واستقبالهم العمل في الجامعات الأمريكية..

-         سقوط التحليلية الانجليزية في طوق العزلة الفلسفية سببه اعتماد روادها الثلاث جورج مور، برتراند راسل، وايتهيد، وأنضم لهم لاحقا كلا من فينجشتين وكارناب، وكانت تتوزعهم الاهتمامات التحليلية التالية:

* التحليلية مرتكزها المنهجي الفلسفي البحثي هو فلسفة اللغة حصرا.

* اعتماد محاولة ربط علم الرياضيات والمنطق في تحليل اللغة بغية تحقق المقاربة العلمية التي كان رائدها راسل بامتياز.

* محاولة معالجة مشاكل القضايا الفلسفية الكبرى العالقة المتوارثة عبر تاريخ الفلسفة من خلال الوصول الى ضبط معنى الدلالة اللغوية.

* الاقتراب نحو تمازج الفلسفة بالعلم في محاولة التكامل والالتقاء مع بعض طروحات العلوم الطبيعية دونما جدوى.

* الوضوح في لغة التعبير الفلسفي نزولا الى درجة لغة الكلام العادي وهو ما تبناه جورج مور.

* الانطلاق من معالجة الجزء وصولا الى الكل في معالجة القضايا الفلسفية المعقدة الشائكة.

التحليلية الفرنسية والعداء للتحليلية الانجليزية

اتسمت الفلسفة الفرنسية التحليلية بالنفور من تيارات التحليلية الانجليزية تحديدا، من حيث أن الفلسفات الفرنسية ذات الارث العميق بأصول تاريخ الفلسفة الذي ساهمت كثيرا بصنعه، كانت دائما تعتمد معالجة القضايا الفلسفية الكبرى بمنهجية التركيب الشامل ولم تتجه نحو الاهتمام بمعالجة الجزء للوصول الى كليات كما تفعل التحليلية الانجليزية. مناهج الفلسفات الفرنسية على ثرائها المتنوع الغزير كانت تناقض تماما منهجية التبسيط اللغوي في التحليلية الانجليزية وابتعادها عن ملامسة عمق القضايا الكبرى، في انهمامها تحقيق مبدأ الوضوح الذي يصل أحيانا الى كلام الناس الجاري كما طرح ذلك جورج مور يسنده بهذا المسعى فينجشتين المتأخر.

من جهة أخرى وجدت الفلسفات الفرنسية التي اعتمدت مركزية فلسفة اللغة أنها أقرب إلى توجهات الفلاسفة الأمريكان الذين كانوا هم أيضا ينظرون لتحليلية الانجليز أنها استنفدت كل جديد يمكنها قوله. لذا وجد الفلاسفة الفرنسيين ملاذهم في لقاء فلاسفة الأمريكان كما فعل بول ريكور صاحب التأويلية ومثله جاك دريدا صاحب التفكيكية في تواجدهم على الارض الامريكية والتدريس بجامعاتها تحديدا قبل عودتهم الفرنسية ثانية.

فريجه وراسل وقسمة الرياضيات بينهما

اعتمد راسل بإقرار منه لا لبس فيه غاية الاعتماد على كتابات ومؤلفات جوتلوب فريجه في مجال الرياضيات على وفق منهج التحليل." حاول فريجه إظهار أن الرياضيات ومصطلحاتها يمكن أن يتم تحليلها باستخدام مصطلحات تعود الى المنطق، وحقائق الرياضيات ماهي الا اختصاصات تعريفية لحقائق المنطق"1, كما يؤكد فريجه" أن دقة معظم البراهين الرياضية لمعاصريه والسابقين عليه، هي دقة وهمية، وأن الرياضيين لم يحققوا أكثر من مجرد التاكيد التجريبي لأسس الرياضيات "2. كما يؤكد فريجه بنزعة شديدة " هناك مزايا للمعرفة الرياضية، وهي الوضوح التي عجزت وجهات نظر معاصريه من الرياضيين والفلاسفة امتلاكها، ويصف هذا الأمر بالفاضح الذي يكشف عن جهل فلسفي" 3 ماذا نستخلص من عبارات فريجه الاب الروحي للتحليل السابقة:

-         اعتماد فلاسفة التحليلية الانجليز الرواد على فريجه بأهمية العودة الى الرياضيات وفق منهج تحليل اللغة غير مسبوق، وأن المنطق الرياضي يقود إلى حل مجمل قضايا الفلسفة الخاطئة الموروثة التي سببها الرئيس غموض وتعقيدات اللغة التي حجبت خلفها حقيقة قضايا الفلسفة ومشكلاتها.

-         تبني كلا من فينجشتين وجورج مور أن الوضوح اللغوي حتى على صعيد المنطق والرياضيات، هو منهج مطلوب في تصحيح متراكمات الاخطاء الفلسفية المعيبة الفاضحة على حد تعبير فريجه. حيث تراجع فينجشتين في استهوائه طرح الوضوح قوله ما معناه لا يستر عيوب اللغة غير الصمت حينما تعجزنا اللغة التعبير بوضوح المعنى... وتلقف مور هذا التوجه في دعوته أن لغة الحوار العادي الجاري بين الناس هو الكفيل بتخليص مشاكل الفلسفة من التعقيّد والإبهام الذي يضيّعه تعبير اللغة الفلسفي الغامض.

-         أن مشكلة اللغة في تعقيد المعنى أصبحت هي مشكلة سابقة على جميع مشاكل القضايا المعقدة فلسفيا. وأصبح السائد المتداول عند فلاسفة اللغة المعاصرين معظمهم، أن التراكم اللغوي الخاطئ الذي رافق تاريخ الفلسفة جعل من اولوية ازالة ركام الاخطاء هو باب الانفراج الذي تنفذ منه الفلسفة وتدخله لمعالجتها أخطاء المشاكل التعقيد اللغوي بالفلسفة والإبهام اللغوي بالفلسفة قبل كل شيء آخر.

-         ليس من السهل ولا من المطلوب فصل الترابط القائم ما بين اللغة كأصل جوهري ترتكزه التحليلية من جهة، وبين منطق الرياضيات الذي ورثته عن فريجه من جهة أخرى. وهذا المسعى يجعل من مقاربة الفلسفة للعلم في تكامل معه له ما يبرره أيضا بالاستناد الى توصية فريجه تحت هذا العنوان.. أنه من الاخطاء الفاضحة التي تسم الفلسفة هو في إهمالها هذا التوجه المعيب. وتنبه راسل الى أهمية كتاب فريجه العظمى (التصورات) الذي نشره عام 1879.

-         في فترة لاحقة من تطور التحليلية الانجليزية تمحور جورج مور بالتحليل اللغوي القائم على اللغة التي أطلق عليها اللغة الجارية بين الناس، بينما أنفصل عنه راسل بتبنيه لغة المنطق القريب من الرياضيات، وبالرغم من التعبير البادي عن اقتراب راسل من منطق العلم الا أن النتيجة كانت خلق اتجاهين أحدهما استغلاق فلسفة مور بأهمية تبني الوضوح البسيط في اللغة، يقابله راسل بمساعدة فينجشتين ووايتهيد على الاقتراب نحو لغة مثالية قريبة من ابتداعهم ميتافيزيقا لغوية رغم كل الادعاءات في تبنيهم المنهج العلمي.. بل ودعوتهم خلق لغة اصطناعية غير اللغة التواصلية الحالية.

جورج مور والتحليلية

تميز جورج مور كما ذكرنا في سطور سابقة تأكيده أهمية اللغة الجارية بين الناس، مستنتجا من ذلك أن الادراكات الحسية المشتركة العامة لا تخطئ كونها إدراكات (فطرية) لا يمكن التشكيك بها لأنها تحمل أجماعا سيسيولوجيا متفقا عليه لا يحتاج لبرهان منطقي يثبته. وإدراكات الفطرة صادقة كونها لا تتعارض مع الحس المشترك الذي يعارضه فلاسفة المثالية مثل بيركلي، والحس المشترك عند مور معرفة ثابتة لا يجوز أن تكون موضع تساؤل شكي.4

تعقيب

من منطلق نقدي مادي علمي لا يؤمن به مور دليل قوله (لا يوجد ما هو مادي) يسعى مور محاربة المنطق المثالي بمنطق مثالي آخر لا يخرجان كليهما معا عن الالتقاء بالمحصلة النهائية في هدف مثالي مشترك. الشيء الجدير بالتشكيك بصحة مثالية مور، هو في اعتباره واعتماده وجود ادراكات (فطرية) مرددا نفس أفكار ديكارت وكانط حول فطرية الادراكات غير الخاطئة لأنها مجمع على صحتها البديهية التي لا تحتاج البرهنة عليها، وفي معرض تخطئتنا هذا المنهج المثالي نجده يتمثل في منحيين:

الأول لا يوجد أدراكات فطرية يولد الانسان مزودا بالاستعداد التام بها. تصلح أن تكون استدلالا منطقيا في الحكم على صدقية ما تشير له من مدركات وظواهر. فكل خبرة ننعتها بالفطرية هي بالأصل تكونت من تراكم خبرة مكتسبة من الواقع والعالم الخارجي مخزّنة بالذاكرة والذهن... مقولة جون لوك نكرانه لأفكار فطرية وعدم وجود ادراكات قبلية عن الاشياء والعالم الخارجي مقولة صحيحة من حيث وسيلة اكتساب المعرفة يكون من خلال الاندماج بالحياة التي لا توجد معرفة قبلية لها سابقة على التجربة فيها. الافكار الفطرية التي يكون مزودا بها الانسان هي في حقيقتها تراكم خبرة مكتسبة وخير دليل تعلم الانسان اللغة، وتعلمه كيف يكون استعمال النار الخاطئ في نشوب الحرائق وهكذا.

الثاني الإجماع الإدراكي على صواب وصحة معارفنا لا يمنحها حقيقتها الثاوية فيها على أنها زائفة غير صادقة. فالإجماع على المسائل التي نجدها بديهية الادراك بصحتها لا تحتاج برهان يؤكد تلك المصداقية لا يمكننا الاخذ به باعتباره من مقولات ميتافيزيقية نسبة الصح والخطأ فيها متساويان قبل أمكانية الحسم بينها أيهما الاصح... المعارف الحقيقية الصحيحة تكتسب شرعيتها من التجربة العلمية وليس من سوسيولوجيا الحكم الجماعي عليها. الإدراكات الجماعية هي الإحساسات غير اليقينية التي لا تستطيع تحويل الزيف والاكاذيب الى حقائق مسّلم بها تقود الحياة.

صحيح جدا أننا نصادف بالحياة ظواهر وأمور تلقى الاجماع السوسيولوجي بالحكم على صحتها لكنما لا يجعل من هذا الاجماع قانونا علميا يمكن اعتماده على الدوام. بديهيات الحياة ليست هي كل الحياة التي نتعامل بها معرفيا، ففي معرض تعزيز مور وجهة نظره الادراكية في بديهيات الاشياء التي لا تحتاج الى برهان يرد على عبارة هيوم في الشك قوله لا يمكن لاحد أن يعرف وجود أي موضوع، وكان رد مور عليه "أن على هيوم أخذ بيده قلما ويقول أعرف أن هذا قلم".5

من المفارقة الغريبة أن هذا المثال المادي الذي يسوقه مور في دحضه المثالية الشكية لهيوم هو نفسه مور صاحب مقولة (لا يوجد اشياء مادية). فهل المثالية والمادية منهجان لا فرق بينهما لدى جورج مور؟ كان مور على اقتناع كامل بأن مشكلات الفلسفة لا تحلها المعالجات المنطقية التنظيرية، ولا بمجرد ازدياد المعرفة العلمية، وإنما مفتاح الحل هو توجيه عناية مركزة للحس المشترك واللغة العادية.6

نعود تكرار متناقضات مور المثالية فهو بالوقت الذي يهاجم مثالية بيركلي قوله "الموضوعات الفيزيقية توجد فقط، عندما يتم ادراكها"، يذهب الى الجزم القاطع أن كل ما أنكره الفلاسفة المثاليون هي صادقة في حقيقتها، وبرهانه على ذلك هو اعتماد الحس المشترك واللغة العادية. من الملاحظ أن مور في أفكاره الهجومية على الفلسفة المثالية فهو في حقيقة الامر لا يغادرها في ممارسته التحليل بالمنهج المثالي الذي يعتمده ولا يلتزم بالنقيض المادي له.

تحليلية برتراند راسل

هناك ما لا يمكن حصره من اختلافات فلسفية بين راسل من جهة وفلاسفة التحليلية الانجليزية الآخرين من جهة أخرى، وأبرز ما يمثله راسل في تمايزه التحليلي نجده:

-         رغم نزعة راسل العلمية إلا أنه اعتبر الميتافيزيقا مبحثا فلسفيا مهما لا يمكن تجاوزه. كما سعى أن تكون الفلسفة التحليلية والعامة تنظيرا منطقيا لا علاقة تشده بالواقع والحياة، معتبرا ليس من مهام الفلسفة تغيير الحياة وإنما التعبير المتسائل عنها ومعنى الوجود والانسان. وهي قضايا لا يمكن اعتبارها دخيلة وتجديد فلسفي لم يكن تاريخ الفلسفة قائما عليه..

-         ربط راسل بين المنطق الذي أعتبره "ماهية الفلسفة" وما لا يكون منطقيا لا يكون فلسفيا" واعتبر التحليل المنطقي عملية ذهنية نضطلع بها حين نحاول توضيح التصورات والعبارات سواء في مضمار الفلسفة أم في مضمار الحس المشترك"7

-         التحليل عند راسل نوع من الاختزال الفكري" أو الرد سواء كان هذا الرد فيزيائيا أو لغويا أو رياضيات، ويستهدف الرد تطهير الفلسفة من الكيانات الوهمية التي درج الفلاسفة أشاعتها وبثّها في الكون، وأستعار عن أوكام الاختزال أو ما يطلق عليه الاقتصاد بالفكر الذي اراد راسل من خلاله رد الرياضيات الى المنطق في كتابه أصول الرياضيات " 8

-         أنكر راسل على مور الحس المشترك باعتباره نوعا من المطلق الابيستيمولوجي، معتبرا الحس المشترك صورة فجّة غير منقحة للمعرفة العلمية, فالعلم عند راسل يذهب أبعد مما يذهب له الحس المشترك.9

تحليلية فينجشتين

كان دافع فينجشتين الفلسفي الاول في منهج تحليل اللغة، بعيدا عن التشتيت والتطرف الذي سلكته فلسفات وتيارات عديدة في توظيفات واستخدامات واجتهادات خارج مركزية تحليل اللغة من أجل تحقيق "هدف تحليل اللغة في توضيح المشكلات الفلسفية، معتبرا إزالة غموض اللغة كفيل كشف زيف المشكلات الفلسفية أو هي ليست مشكلات أساسا."10

ويضيف فيتجنشتين بلهجة أكثر صرامة "إن معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور هي ليست كاذبة فقط، بل هي خالية من أي معنى، فمعظم الاسئلة التي يتداولها الفلاسفة إنما هي ناشئة عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، وإذن فلا عجب إذا عرفنا إن أعمق المشكلات الفلسفية ليست مشكلات على الإطلاق ". عليه لا نجد غرابة في توكيد فينجشتين الاختزالي تعبيره "الفلسفة ماهي الا تحليلات نقدية للغة" تقوم على توضيحات لغوية. الغرابة في تعبير فينجشتين أن ما أعتبره منهجا تحليلا تقويميا لقضايا فلسفية ورثناها خاطئة ووصلتنا معقدة بلا معنى، لم يأخذ طريقه المنهجي التحليلي بالتطبيق من حيث أن تحليل اللغة دخلت في نفق تصحيح معاني عبارات اللغة قبل تصحيح أفكار الفلسفة التي لم يطالها منهج التحليل التطبيقي.

إننا لا نغالي إذا ما قلنا منهج التحليل اللغوي استنفد طاقته في تحليل غموض وتعقيدات تعبير اللغة ولم تصل في تطبيقها المنهجي التحليلي قضايا ومشكلات الفلسفة لكشف الزيف الذي يعتريها مستشريا فيها. تحليل اللغة الذي اراده فينجشتين منهجا تقويميا لانحرافات معاني التعبير اللغوي بالفلسفة، جعل فلاسفة التطرف في فلسفة اللغة يذهبون مذاهب وطرق شتى باسم منهج تحليل اللغة وخير دليل على ذلك هو تأويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا. فكانوا مهوسين في البحث عن فائض المعنى باللغة وليس اهتمامهم تصحيح تعبير أخطاء لغة تعبير الفلسفة عن قضايا ومشكلات خاطئة. في مصطلح العاب اللغة الذي ابتدعه فينجشتين يكون تحليل اللغة مرتبطا بتحليل العالم الخارجي، والوحدة التحليلية الاخيرة التي لا يمكن تحليلها الى أصغر منها أطلق عليه "الواقعة الذرية"، وتحليل الفكر عنده يتوقف على ارتباطه بتحليل اللغة، طالما أن اللغة هي الصياغة اللفظية أو الجهاز الرمزي الذي تعبر به عن الأفكار والمعاني.11

معيار فينجشتين في صدق اللغة أو زيفها هو في مدى مطابقتها الواقع الخارجي. مما حدا بتوهان الفلاسفة في تحديدهم المقصود بالعالم الخارجي قبل البحث عن صدقية تعبير اللغة، وزاد الإرباك الفلسفي عباراته مثل "أن جملة الوجود الخارجي هي العالم" و"الوجود الخارجي هو وجود وعدم وجود الوقائع الذرية "12

خاتمة

يمكننا الذهاب مع بعض الفلاسفة والمفكرين الذين نقدوا التحليلية الإنجليزية، والتحليلية الفلسفية بصورة عامة، أنها أخذت في نهاياتها بعد رحيل فينجشتين وراسل وفلاسفة تحليلية آخرين عديدين تقع في متناقضات حول الاسس التي أعتمدتها في أوج ظهورها الى أن فلسفة العقل, وفلسفة اللغة ونظرية المعنى, والمنطق, والرياضيات في تعالقها وتداخلها الفلسفي انصهرت بمجموعها في ما سمي الفلسفة التحليلية, الا أن حقيقة الواقع التنظيري الفلسفي أبانت بوضوح عن جملة أمور جعلت من التحليلية مرحلة عابرة في تاريخ الفلسفة وليس كما تنبأ لها راسل أن تكون أم الفلسفات جميعها، وفيلسوف التحليلية هو سيد الفلاسفة.

من العيوب التي رجعت التحليلية مناقضة نفسها بها هي الميتافيزيقا، وكذلك سردية الدين، والعودة إلى اعتماد منطلقات الوضعية المنطقية التي في البدء خرجت عليها، والاهم من كل ذلك أنها وقعت في الفخ الذي حذرت منه هو أن التحليلية منهج وليس هدفا. وفي الوقت الذي نادت به وبإصرار فلسفي عنيد أن التحليلية ستكون مفتاح حل مشاكل وقضايا الفلسفة الكبرى التي أوقعتها اللغة في اللامعنى أو الزيف أو على أقل تقدير الازدواجية في التعبير. ثم الوضوح اللغوي الذي طالبت به أرتد عليها في أن التحليلية أضاعت المشيتين كما يقال في هذا المنحى فلا هي نجحت في منهجية وسيلية وضوح اللغة، ولا هي احتفظت بمكانتها التي تقوم على المنطق اللغوي المعقد.

الهوامش:

1.احمد محمد عطية/الفلسفة التحليلية، ماهيتها، مصادرها، ومفكروها ص68

2. نفسه ص 73

3.نفسه ص 74

4. نفسه ص 78

5. نفسه 76

6. نفسه ص 75

7. نفسه ص 84

8. نفسه ص 86

9. نفسه ص 87

10. نفسه ص 94

11. نفسه ص 96

12. نفسه ص 97

 

 

 

 

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس