المعجزة الدينية وقوانين الطبيعة

 

المعجزة الدينية وقوانين الطبيعة

                                    01 نونبر 2020

د علي محمد اليوسف


(المعجزة هي انتهاك لقوانين الطبيعة) ديفيد هيوم

عليه تكون المعجزات ليست خواص الهية يحتاجها الرب لإثبات الإيمان به بل هي خواص أنبياء مؤقتة لكسب تأييد الناس الإيمان بهم وبما يحملونه من رسالات مكنهم الخالق امتلاكها وحدهم دون غيرهم من البشر وأنهم مرسلون من الرب بمعجزات خصّهم بها لتأكيد صدقية الإيمان الديني بهم في نقلهم رسالة الخالق إلى عامة الناس.

التساؤل الذي يفترض أن يكون تابعا ما بعد تعريف المعجزة التي عبر عنها ديفيد هيوم والعديدين من الفلاسفة على انها خرق لقوانين الطبيعة، لكنهم لم يحسموا مصدر هذه القوانين الثابتة في الطبيعة ومن يمتلكها حقيقة؟ ومن اين جاءت القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكم الطبيعة نفسها بها بغير إدراك منها لها وتحكم الانسان وكل المخلوقات والكائنات التابعة للطبيعة في إدامة بقائها؟ وما علاقة المعجزة الدينية أن يكون تعريفها الدقيق هو خرق قصدي للقوانين العامة التي تحكم الطبيعة والإنسان؟  فالمعجزة خرق قصدي لقوانين الطبيعة التي لا تدرك هي قصديتها ولا تعي أهميتها في تنظيم حياة الانسان.

إجابة هذا التساؤل هو التفريق بين الإيمان الديني وبين عدم الإيمان الديني الذي مرتكز قوامه الإيمان والرفض للمعجزات. ولكل من الفريقين حججه التي تناقض حجج الاخر لكنهما يبقيان الاثنين المتضادين المتناحرين في سجال ساحته المركزية تخطئة البعض للآخر وليس الاجابة الشافية عن موضوع الاختلاف حول المعجزة الدينية وترابطها الوثيق بقوانين الطبيعة الثابتة وكيفية البرهان العقلي على ذلك.

هذا الإشكال طرحه بيرتراند رسل قوله أن قوانين الطبيعة هي اصطلاحات انسانية متواضع عليها عبر العصور الطويلة وأصبحت بمرور الزمان قوانين ثابتة طبيعية. لكن الاعتراض الوجيه على هذا الطرح هو لو كانت قوانين الطبيعة هي من صنع إنساني لتوجب بالضرورة السببية أن تكون قوانين غير ثابتة متطورة يترتب عليه أن تكون الطبيعة في قوانينها بحالة من السيرورة الدائمية غير الثابتة التي لا تحدها حدود قوانين لا يمكن للإنسان تجاوزها بالتبديل ولا بالتغيير، وعدم ثبات قوانين الطبيعة التي هي ابتداع عمل انساني يلحق به بالضرورة المتعالقة معه أن المعجزات ليست خوارق لقوانين طبيعية هي من صنع الخالق وليس من ابتداع الانسان.

فخرق الإنسان لقوانين طبيعية ثابتة كان هو مصدر ابتداعها هي بالحتمية التاريخية تكون مطواعة مستجيبة لرغبة الانسان التي وضعها أن يقوم بعملية تغييرها عبر العصور. لكن عجز الإنسان أن يخرق قوانين الطبيعة الثابتة جعل خرقها مقتصرا على مقدرة الصفوة المختارة من الانبياء الذين قاموا بها استثنائيا في خرقهم تلك القوانين بما أطلق عليه المعجزات متمثلة في عجز غيرهم مجاراتهم بصنيعهم. وبذلك خرجت المعجزات أن تكون من اختراع الانسان في محاولته السيطرة عليها، وكذلك لم تكن المعجزات تراكما من الفعاليات الفريدة التي ينتج عنها بالضرورة تطورا متغيرا لا يتسم بالثبات كقوانين تحكم الطبيعة والانسان وليس بمقدور الانسان قابلية أكثر من التكيّف مع تلك القوانين الثابتة لإدامة حياته من الانقراض.

وبذا انحسر موضوع القوانين الطبيعية بين قطبين مختلفين عائديتها الذاتية المستقلة عن صانع اودعها بها من جهة، ومن جهة مضادة لها أن قوانين الطبيعة هي جزء لا يمكن انفكاكه عن الطبيعة بما هي معطى موجود هكذا منذ الاف العصور وإلى يومنا هذا وليس بمستطاع الإنسان التلاعب بقوانين الطبيعة الثابتة خارج سلطة اكثر من البناء عليها والاستفادة منها وبقيت تلك القوانين ثابتة في ملازمة الطبيعة كماهية جوهرية وصفات لها أخذت سمة الثبات الذي لا يتغير ومحاولة التفكير بخرق واحدة من تلك القوانين مرهون بعمل نبي مختار مزودا بقدرة إلهية هي فوق قدرات البشر القيام بها أو فهمها تفسيرا عقليا.

المعجزة بين قدرة الخالق والمخلوق

المعجزات الدينية أمر مشكوك أن يقوم به انسان نبي بخرق قوانين طبيعية هي من صنع انسان سابق عليه في زمانه التاريخي، والمعجزات لا تمت الى الإلهي الخالق بصفة خلقها لأنها اصطلاحات إنسانية متواضع عليها دينيا ومختلفة في تفسيرها عقليا. والخروج على قوانين مصنوعة إنسانيا لا يعتبر معجزة. ومما يزيد الإشكالية تعقيدا هو هل كان العقل الانساني الذي وضع قوانين الطبيعة بهذا الإتقان الاعجازي المذهل الذي نعيشه في اكثر من مجال بالحياة وعلاقة الانسان بالطبيعة كان أكثر تقدما وتطورا من عقل الإنسان (الأنبياء) الذين تعاقبوا على خرق تلك القوانين عبر العصور وما يزال العديد من تلك القوانين يستعصي على الادراك العقلي الديني والعلمي تفسيره كما يستعصي خرق المعجزات لتلك القوانين بسبب محدودية العقل الادراكي التصديق بها طبيعيا في اكتشافه عمل بعض قوانين الطبيعة التي تحكمنا انها عصّية على المقبولية العقلية المحدودة للإنسان وعصّية على التفكير التجريبي العلمي الذي يقوم على البرهان علميا.

ولو كانت قوانين الطبيعة مثل قانون الجاذبية ومثل قانون الادراك في تعالق المكان ادراكيا بالزمان وقوانين حركات الكواكب وغير ذلك عديد هي من صنع الانسان لكانت معظم تلك القوانين استهلكت نفسها وفقدت تأثيرها على التحكم بالطبيعة ذاتها والانسان معا تبعا لتطور التفكير العلمي عند الانسان في تغيير الكثير مما تمتلكه الطبيعة باستقلالية منفردة عن الانسان.

 نرى من المفيد تثبيت رأي هيجل بهذا المجال المطروح قوله: أن حركة النظام الشمسي تجري طبقا لقوانين ثابتة، هذه القوانين هي عقله- يقصد عقل النظام الشمسي- ولكن لا الشمس ولا الكواكب الاخرى التي تدور حولها لديها اي وعي بتلك القوانين. " نقلا عن حاتم حميد محسن، عن هيجل العقل في التاريخ" وهو ما كنا سبق لنا ذكره أن الطبيعة محكومة بقوانين ثابتة لا تعيها الطبيعة ولا هي تعي نفسها. فالطبيعة بهذا تكون مخلوقة غير خالقة لنفسها ولا لقوانينها، فالذي لا يعي ذاته لا يكون خالقا لذاته، بل يكون موضوعا لإدراك غيره من ذوات مدركة له ومدركة لذاتها هي معا. كما أن تعبير امتلاك قوانين النظام الشمسي لعقل خاص بها امر وتعبير مجازي فقوانين النظام الشمسي تمتلك نظاما حركيا ثابتا، ولا تمتلك عقلا مفكرا يعي ذاته وينظم موجوداته التابعة له.

أما احتمال نظرية أن تكون الطبيعة وجدت هكذا بقوانين تحكمها ولا تدركها الطبيعة نفسها فذلك يثير علامة استفهام تقود لفرضية أن الطبيعة بمجملها من قوانين وموجودات محكومة بقدرة خالق إعجازية لا يدركها العقل الانساني وهذا باب يدخلنا الى مناقشة الموضوع بأكثر من الاكتفاء بطرحه على شكل تساؤلات بلا حلول ناجعة يقبل التسليم بها العقل الإنساني في عصرنا اليوم. ولا يتساوى فيه عقل تقبّل المعجزات في الازمنة التاريخية الماضية كما هي اليوم التعامل معها أصبح ملك عقل يشكك بكل شيء يقوم على التصديق اليقيني بمعزل عن امتلاكه براهين اثبات معقوليته علميا.

هيوم وقوانين الطبيعة

يشرح هيوم عدم ايمانه بالمعجزات الإلهية، بقوله ليس هناك عناية خاصة الهية تعطل قوانين الطبيعة من أجل إرضاء اشخاص معينين، ويحاول التفريق بين الارادة الالهية الخارقة لقوانين الطبيعة على أنها ترجمة انعكاسية ثانية لما ترغبه الارادة البشرية تحقيقه بواسطة قوانين سايكولوجية يمكننا ملاحظتها ووصفها، كما يربط هيوم بين حتمية ارادة الانسان المقترنة بالمسؤولية الاخلاقية.1  

هنا هيوم يقوم يسحب بساط الانفراد الإعجازي من الانبياء في نسبته المعجزات لطائفة مختارة مقربة من الرب هم الانبياء المختارين يستودعهم الخالق قدرات خارقة لا يتقبلها العقل الطبيعي، تعجز البشر من فهمها وفق التناسق الطبيعي العام لقوانين طبيعية تحكم الحياة، وفي نفس وقت أجبار الانسان العادي التسليم بالإيمان الديني أن وراء هذه المعجزات الله لا غيره والقائمون بها أنبياء مختارين منه.

قوانين الطبيعة الثابتة لم توجد ولا تكون موجودة تلبية لرغائب الانسان وكذلك خرقها وانتهاكها ليست من صلاحية ومقدرة الانسان اللعب بها، كما لا تكون تلك القوانين هي مخلوقة لتنظيم حياة الانسان قبل مهمة تنظيمها قوانين الطبيعة الثابتة فيها كما هي موجودة كمعطى في الطبيعة ذاتها، الطبيعة لم توجد بهذه الكيفية تلبية لتامين حياة الانسان والكائنات الحية الاخرى.

وإذا نحن أجزنا منح قدرتنا الإيمانية بالمعجزات خاصية الانبياء الوقتية الزائلة التي لا يحتاجها الخالق في تثبيت الإيمان الديني عند البشر الايمان بألوهيته، تكون المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة التي وضعها الخالق في الطبيعة من قبل انبيائه برغبة ذاتية تتملكهم تحقيق الايمان الديني الجمعي الذي لا تجدي معه الوصايا الاخلاقية ولا العظات التي يقوم بها الانبياء نفعا وهذا محال، فمعنى ذلك الإقرار بوحدة قوانين خرق المعجزات لقوانين الطبيعة الثابتة تكون في محصلتها أن كلاهما قوانين الطبيعة والمعجزات مقولتان ناتجتان عن مصدر إلهي واحد في قدرة الهية واحدة وهي وسيلة الخالق تكليفه الأنبياء القيام بها برغبة منه وليس برغبة انبياء يرغبون زرع الايمان الديني القائم على قيم الخير والأخلاق في الحياة لتثبيت الايمان الديني بهم وليس الايمان بالخالق الغني عن استحصال الايمان الديني بالمعجزات. والمقولة الثانية المناقضة التي يتبناها الملاحدة أن قوانين الطبيعة المخترقة بالمعجزات كلتاهما تلتقيان في مصدر واحد هو الانسان الذي أبتدعها ويروم خرقها لأسباب تتعلق بتثبيت القناعة الدينية على الأرض في تبرير محصلة ذلك سيكون خلود الانسان في الانبعاث الميتافيزيقي السماوي ثوابا لإيمانه الديني الأرضي..

ثم أن إرادة الانسان العادي المقترنة بالمسؤولية الاخلاقية تجاه ايمانه الديني بالمعجزات ليست هي ذاتها المسؤولية الاخلاقية لدى الانبياء في إتيانهم المعجزات على اساس من تداخل أعجازي الهي تتقاطع مع نقيضها هو عدم قدرة الانسان العادي بأي شكل من الاشكال خارج ما تقوم به المعجزات أن يصنع هو معجزاته بإرادته ومسؤوليته الاخلاقية لنخرج بمحصلة لا قيمة لمعجزة يستطيع تكرارها العديد من الناس وليس الصفوة المختارة من الأنبياء.

بوجيز التعبير هل المعجزة خاصية إلهية  يحتاجها الخالق لتدعيم ايمان الناس به، أم هي خاصية الهية وضعها في أناس اختارهم صفوة التبشير بما يرغبه الخالق من إيمان ديني بوجوده المطلق الذي يرى في البشر خلقوا من أجل تلبية ايمانهم به معبرا عنها بوصايا أخلاقية وأشكال من صلوات وطقوس عبادية يتقدمهم الانبياء في الايمان بها وممارستها ايمانا وممارسة في تلبية طقوس عبادية ترضي الرب وترضي عابديه على صعيد الممارسة الايمانية في تفعيل الضمير الأخلاقي على أنه ايمان بكل ما هو خير من صفات وترك كل ما هو شر يقود لمعصية الخالق بما أمر النهي عنه على لسان انبيائه وكتبهم المقدسة.

الشيء الواجب مناقشته إذا كانت رغبة الخالق كسره قوانين الطبيعة الثابتة التي على وفقها منح الخالق الطبيعة أعجازها المنّظم كمصدر بقاء حياة الانسان والخلل المصنوع من قبل الانسان لنظام تلك القوانين الطبيعي يترتب عليه أن الإنسان يعدم ضرورات بقائه على الارض التي تؤمنها له قوانين الطبيعة الثابتة الاعجازية بما تحتويه من علاقات تجمع الانسان مع الحيوان مع النبات مع الجماد ضمن قوانين صادرة عن مصدر إلهي واحد استودعه في نظام الطبيعة.. فلا نجد هنا مبررا كافيا أن يكسر الأنبياء بإعجاز يمتلكونه بسلطة الرب أو غيرها وليس بإمكانية الانسان القاصرة المحدودة تلك القوانين الطبيعية التي تناسب مدارك الانسان فهي موضوعة من خالق يريد جعل الطبيعة بقوانينها في خدمة حياة الانسان وليس تدميرها، فكيف يجوز للأنبياء الصفوة الإيمانية المختارة من الخالق امتلاكهم قدرة كسر قوانين طبيعية تعتبر مقدسة بخالقها الذي استودعها الطبيعة، وكسر الخالق تلك القوانين الثابتة من أجل تأييده لأنبيائه بما يقدرون عليه من قدرة لا يستطيعها باقي البشر لا يستقيم مع ما عبّر عنه هيوم أنه لا توجد ضرورة ملزمة لإرضاء نخبة من الصفوة المختارة من البشر يقربهم الرب له بتزويدهم بمعجزات هي خوارق لقوانين طبيعية وضعها الخالق بها وليست من ابتكار واختراع الانسان.

هنا يجب التفريق لا اولوية ضمان صالح الانبياء في توسيلهم القيام بمعجزات نشر الايمان الديني تنسب لهم لكن تبقى المعجزات ليست خاصية بهم فالأنبياء خارج ملكة احتكارهم المعجزات بعد الرب هم بشر متساوون بكل شيء مع البشر الاخرين. وهم يعبرون عن هذه الحقيقة بأنفسهم على الملأ الذي يدعونه الى الايمان الديني بوسيلة المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة وليس بالوصايا الأخلاقية المجردة.

الخروج الوحيد من مأزق أن معجزات تكسير الأنبياء لنظام قوانين الطبيعة هو أن المعجزات خروقات وقتية زائلة زمانيا لقوانين الطبيعة وهي وليدة عصرها التاريخي وهذا لا يلزم عنه تبديلا لثوابت الطبيعة التي لا تتغير قوانينها بمرور العصور والأزمان وتبدلات تاريخ وجود الإنسان على الأرض.. بمعنى ثبات قوانين الطبيعة يلغي ويزيل بقاء المعجزات عبر كل الازمان والعصور كوسيلة تدعيم الايمان الديني المتأرجح عند البشر اليوم. لذا كان أقصر الطرق لهروب اللاهوت الديني من مواجهة اضمحلال المعجزات على أنها وسيلة اقناعية في ترسيخ الايمان الديني انتهت صلاحية الايمان بها، نجدهم لجأوا إلى القول أن عصر المعجزات وظهور الأنبياء توقف من حياة الناس إلى إشعار آخر.

المعجزة الدينية بين إرادة الخالق ورغبة الأنبياء

وهنا يبرز تساؤل مشروع هل المعجزة عمل أنبياء بشر تنسب لهم أم المعجزة هي تحقيق رغبة الخالق بتوسيل الانبياء القيام بها وتنسب لقدرتهم العابرة للمعجزات التي يقوم بها الانبياء حصرا من الصفوة المختارة المقربين؟ وهنا نرجّح كفة أن المعجزات هي من وحي الهي يقوم بها انبياء لتثبيت نبوتهم في كسب قناعة الناس بالإيمان الديني لكنهم لا يمتلكون خاصية المعجزات كصفة دائمية التي هي خاصية الخالق وحده.

المعجزات في كل الأحوال لا يحتاجها الخالق بمقدار حاجة الأنبياء لها لتثبيت دعاواهم الايمانية ببراهين معجزة وقتية يصدقها الناس من خلالها نبوّتهم المقترنة بالإيمان الديني للخالق. وبذلك لا يكون الأنبياء يمتلكون خاصية إعجازية تنسب لهم لا يمكن أن يمتلكها غيرهم بدليل ان تقديرات عدد الانبياء المرسلين لهداية الناس على الأرض تجاوز الألفين. فقط الذين وردت اسماؤهم في لاهوت الاديان وربما توجد الاف غيرهم. وبهذا الدليل يصبح مقولة هيوم الانسان خلع على الطبيعة قوانينها الثابتة المكتشفة منه باطلا يفتقد برهانه، والسبب الآخر الاهم أن وجود الطبيعة بقوانينها سابق على وجود الانسان في ادراكه قوانين الطبيعة وعلاقته بها هو الآخر يدحض مقولة هيوم وراسل أن المعجزات ابتداع عقلي أنساني لا دخل لخالق به..

وفي كلا الاحتمالين خاصية المعجزة ومصدرها الالهي أو هي خاصية يمتلكها الانبياء في وقت تاريخي معين زائل، فالمعجزة عند الأنبياء لا تتكرر دائما بما يفقدها مع مرور الزمان إعجازيتها الاستثنائية المندثرة حتما في عالم يتحدى فيه اليوم أي انسان يدعي النبوة القيام بمعجزة يصدقها الناس.. عليه نجد لا يكون هناك موجبا أن تتساوى إعجازات الأنبياء الخارقة لقوانين ثابتة وضعها الله بالطبيعة إعجازيا، مع تلبية ارادة انسانية في كسر تلك القوانين الطبيعية الثابتة التي وضعها الخالق في تحقيق صحة نبوة الأنبياء أنهم صفوته المرسلون لهداية الناس.

ثم هل المعجزات هي لتلبية سد نقص موجود في قوانين الطبيعة تحتاج التأييد الإلهي في الخروج عليها بالمعجزة الوقتية والتراجع عنها بعد كسب يقين الناس بنبوة من يقوم بها دونما توفر إمكانية التدخل الإعجازي من تغيير ثبات قوانين الطبيعة.

أم هل المعجزات إضافة لقوانين الطبيعة الثابتة توازيها بالتداخل معها أو بالاستقلالية عنها؟ لا شيء تحققه المعجزة من تلك الاسئلة في علاقة التوازي الاعجازي مع قوانين الطبيعة التي لا تدرك نفسها بل يدركها العقل الانساني بمعزل تام عنها وتداخله بها هو لتحقيق بقائه الأرضي بمساعدة الطبيعة تزويده بمقومات الحياة والبقاء الذي لا يقتصر على ثوابت القوانين الطبيعية فقط.. ولم يتخذ الانسان يوما قوانين الطبيعة كمعجزات تعزز رغبة الايمان الديني لديه كما لم يؤمن في حال نقضها بالمعجزات يترتب عليه التسليم بالإيمان الديني..

المعجزة وقوانين الطبيعة

هل المعجزة في كسرها قوانين الطبيعة هي لصالح حياة الإنسان على الارض في تعديلها أو في سد النقص والانحراف غير الموجود بها؟ أم هي وسيلة يمتلكها الانبياء مؤقتا لإثبات البرهنة أنهم انبياء مرسلون يستطيعون القيام بمعجزات مؤيدة من الرب لا يستطيعها غيرهم من البشر؟ وهنا تكون المعجزة لخدمة الانبياء من البشر وليست لخدمة الرب المستغني عن المعجزات سواء تحققت أم لم تتحقق على أيدي الانبياء.

المعجزة ليست خاصية الهية بمعنى الخالق لا يحتاج معجزات تصدر عنه في الحصول على قناعة التسليم الايماني به. المعجزة في حال توفر صدورها اليقيني عن الخالق يودعها في قلوب الأنبياء لكسب برهان الإيمان بهم كأنبياء مرسلين من الرب... لكن فهم المعجزة المقترنة بالنبي تكون خاصية بشرية يدركها العقل العادي على أنها قدرة متعالية يمارسها الأنبياء على القوانين الطبيعية التي تحكم الانسان وحياته على الارض. وميزة الشك بالمعجزة سواء أن تكون من صنع إنساني أو إلهي إيماني هو أن المعجزات (زمانية) يحكمها تاريخ الإنسان توالت عليها عصور طويلة من تقدم مسيرة الانسان الارضية. والاقوام التي قامت بتصديقها في عصور غابرة هي غيرها الاقوام التي تتعامل بالعقل العلمي بما يجعل من المعجزات حاجة لا يحتاجها الانسان اليوم حتى لو كانت من أجل استعادة الايمان الديني المتأرجح في صالات ومختبرات العلوم بلا استثناء وفي اغلب المجتمعات رقيّا حضاريا.. الإيمان الديني اليوم لا يحتاج معجزات انبياء كي يتأكدوا من تحقق ايمانهم الديني الذي يقوم على تنظيم حياة الارض بقيم الاخلاق والسلوك الذي يعطي الانسان كامل حقوقه الأرضية، ولا يضع الإيمان الديني اليوم أمامه غاية خلوده الموعود بها في السماء.

 المعجزات والزمن

إذا نحن ناقشنا أن المعجزات النبوية هي كسر مؤقت وليس دائميا لقوانين الطبيعة الثابتة أو لبعض ظواهرها الأرضية، فتكون حقيقة المعجزات لا تأثير لها على ثبات وكمال قوانين الطبيعة، بعبارة أخرى خرق المعجزات لقوانين الطبيعة الثابتة لا يغيرها ولا يبدلها ولا يستطيع أضافة شيء عليها أو حذف شيء منها، وهنا يكون معنا أن المعجزات الخارقة في حال تصديقنا لها توازي قوانين الطبيعة ولا تستطيع التأثير بها. وهذا التوازي يجعل من المعجزات أحداثا تاريخية ماضية زمانيا عابرة بالمقايسة لها مع ثبات قوانين الطبيعة التي لا تتغير بثباتها الزماني بمعزل عن قوانين المعجزات التي تكسر القوانين الطبيعية بقدرة وقتية زائلة ليس لها تأثير دائمي في خرقها لبعض ظواهر الطبيعة وليس قوانينها.

مثال ذلك معجزة المشي على سطح الماء أو الكلام المباشر مع الله أو شفاء الأعمى واحياء الميت والولادة بلا زواج من رجل، والرضيع يتكلم في المهد وغيرها اليوم أنما كانت في حال حصولها عصر ذاك هي كسر مؤقت لقانون طبيعي ينتهي بنهاية المعجزة المؤقتة. بمعنى كل من يحاول تقليد المشي على سطح الماء اليوم سيغرق حتى لو أدعى النبوة أذا كان شخصا لا يجيد السباحة وينجو بنفسه. وكل من يحاول تقليد الكلام مع الله سيكون بالنهاية مجنونا لا يصلح عاهته الطب النفسي ولا مستشفيات الأمراض العقلية.

عليه تكون قوانين الطبيعة في ثباتها الدائم مع معجزات الانبياء في توقيتها المؤقت الزائل، أنما تكون تكريسا لحقيقة قوانين الطبيعة الثابتة وجدت لخدمة الانسان في حياته، وتبقى المعجزات براهين إعجازية مؤقتة لا تعمل شيئا لصالح الانسان بمقدار تثبيتها نبوة الانبياء وايمان الناس بهم انهم مرسلون من الرب لهداية الناس بالإيمان بوسيلة المعجزات على وجود الخالق والايمان الديني بذلك بما يتبعه من وصايا وارشادات ونواهي وغيرها تنسب للخالق والنبي...

بيرتراند رسل وقوانين الطبيعة

قبل البدء بعرض محتوى عنوان الموضوع الفرعي نذكر أن بيرتراند راسل يفهم وجود الله فهما مغايرا عن غيره من فلاسفة ملحدين، في قوله أن ليس من واجبي البرهنة على وجود الله قبل برهنة الرب على وجوده هو بما يقنعني به عقليا. فهو يضع اللوم على المشككين بإلحاده أن يبرهنوا هم له الإيمان الديني بما يقبله عقله الانساني خارج أساطير وخرافات المعجزات.

راسل في معالجته خرافة المعجزات كما وسبق أن ذهب له اسبينوزا وهيوم يذهب إلى العودة لما جاء به نيوتن وتم دحضه من إنشتاين أن الكواكب تدور حول الشمس بإرادة الهية بفعل قانون الجاذبية الذي وضعه الرب خاصية تعالقية بين تلك الكواكب، والذي اكتشف الانسان الجاذبية قانونا موجودا في الطبيعة وليس اختراعا من الانسان مضافا على قوانينها. ولم يتم الى اليوم التعامل مع قانون الجاذبية على أنه اكتشاف من قوانين الطبيعة فقط لم يترتب عليه اختراعات وفتوحات علمية لا حصر لها. ولم يكن قانون الجاذبية المكتشف دليل أنه قانون اوجده الله في الطبيعة الارضية والكون اللانهائي من أجل تدعيم الايمان الديني لدى الانسان، قانون الجاذبية خاصية الطبيعة في عدم معرفة الانسان من أين جاءت قوانينها العامة التي تحكمها بلا وعي ولا إرادة منها، ورغبة الله أن يخترع قانونا للجاذبية تسير بموجبه الكواكب من ضمنها الارض والقمر حول نفسها وحول الشمس لا علاقة تربط بينهما. بين قانون الجاذبية الطبيعي كمعطى متعالق بوجود الطبيعة، مع قانون الجاذبية الالهي الوضعي الذي زرعه الله في قلب الطبيعة من أجل أن يتمكن الانسان فك شفرات ورموز تلك الجاذبية.

قوانين الطبيعة حسب راسل هي اصطلاحات انسانية اخذت بحكم تكرار العادة -مستعيرا تعبير هيوم - من خلق تصورات العقل الانساني ولا تمتلك الطبيعة قوانينها المستقلة في وجودها الطبيعي. ولنا التعقيب التالي:

-         أن تعبير لايبنتيز أننا نعيش أفضل العوالم الانسانية كان بفضل توازي منجزات العلم مع القوانين التي تحكم الطبيعة وليس في وارد هذا التوازي من جانب واحد هو التزام العلم العمل به ولا تعقل الطبيعة ولا تدرك معنى هذا التوازي وأهميته بالنسبة لها بما لا يقل عن أهميته في خلق حياة أكثر جدوى للإنسان.  العقل الانساني ممثلا بالعلم لا يتقبل معجزات خرق وابطال فاعلية قوانين الطبيعة وأهمية ذلك في تنظيم حياة الانسان وهذه مسألة جديرة بالاحترام تكون مقبولة على صعيد مناطحة الفلسفة مع العلم، فالعلم لا يمتلك معجزات دينية بل يمتلك معجزات عقلية تقوم بتطوير الوجود الانساني بعيدا عن ميتافيزيقا الايمان الديني القائم على معجزات لا تقبل برهان العقل العلمي عليها..

ومقولة لايبنتيز أننا نعيش أفضل العوالم الممكنة غير صحيحة عندما نحاكمها بما يعيشه العالم اليوم من تهديد امن غذائي وامن صحي، وتفاوت بين الغنى والفقر، وتفاوت بين الصحة والمرض على صعيد الشعوب الارضية وليس على صعيد مجتمع بعينه، تلوث البيئة وانتشار الاوبئة واختلال التوازن الطبيعي الموروث في ارتفاع درجة حرارة الارض المستمر وهكذا بما لا يتوقف عنه التعداد والحصر.

بمعنى أن هذا التوازي بين العلم وقوانين الطبيعة وتعالقهما المشترك في محاولة تنظيم حياة الانسان بأفضل ما يكون هو ممكن متاح دليل يدعم النظرية التي تذهب الى أن الطبيعة خلقت قوانينها المنتظمة ذاتيا، بمعنى الطبيعة لا تكون موجودة ادراكيا بالنسبة للإنسان من غير طبيعة تحكمها قوانين ثابتة اكتشف الانسان بعضها بما يديم حياته لا بما يخرب قوانين الطبيعة. وينتفي وجود الطبيعة الحي في تجريدها من قوانينها العامة التي تحكمها من غير درايتها لا بفهمها ولا بأهمية امتلاكها بالنسبة لها والانسان.

كما ينفي هذا جدلية نقاشية أن القوانين التي تحكم الطبيعة قوانين ازلية في ثباتها ملازمة الطبيعة وجدت كمعطى إلهي لا يمكن تغييره لا بمعجزات الدين ولا بمعجزات العلم. بما يجعل من ألحاد العلم حول موضوع المعجزات في توكيده عدم الايمان بها مهمة البرهنة على أهمية من أين امتلكت الطبيعة قوانينها الثابتة؟ وكذا نفس الحال مع المؤمن الذي يؤمن بقدسية ما خلقه الرب من طبيعة ووضع لها قوانين ثابتة مما يرتب البرهنة على صحة هذا الادعاء بعيدا عن التسليم ببراهين المعجزات الخارقة..

-         إذا تماشينا مع كل من ديفيد هيوم وبيرتراند رسل أن قوانين الطبيعة هي تصورات انسانية لمدركات (قوانين) غير ثابتة لا تمتلكها الطبيعة من غير تخيّلات الانسان التصورية لها – وهذا مرفوض قطعا – فقوانين الطبيعة التي يصنعها الانسان أو يخترعها لا علاقة ترابطية في الغاء أحدهما الاخر بمعنى ما يخترعه العلم لا يلغي قوانين طبيعية لا يعرف يقينا مصدرها مثل قنون الجاذبية ومفهوم الزمان على سبيل المثال. التي لا قدرة للطبيعة في امتلاكها لها بوعي منها لا تمتلكه كما لا يستطيع الانسان خلعها على الطبيعة من أجل إدراكها وأهميتها في بقاء الحياة على الأرض.

-         التصور الثالث إذا نحن صادرنا مقولة راسل أن المعجزة ليست من خلق الله فهنا نصطدم بحقيقة أن المعجزة الدينية لا تمتلك قيمة لها كما وردتنا عن الانبياء هي ما فوق إنسانية ليس على المستوى الديني فقط بل على المستوى العقلي أيضا. اي أن خرق قوانين الطبيعة بالمعجزات لا أهمية لها، كون المعجزة تلتقي القانون الطبيعي في مصدر واحد هو الانسان ولا علاقة ولا دخل للخالق بها ولم يكلف الرب أحدا من البشر القيام بها.

-         ويبقى السؤال المحيّر كيف نشأت المعجزات في تداخلها بصلب الايمان الديني وهل هي واقع محكوم به الانسان ويدركه العقل، أم هو وهم اسطوري رافق نشأته وملازمته الايمان الديني عصورا طويلة من الشد والجذب دونما الخروج بنتيجة. وهل الطبيعة اخترعت قوانينها الطبيعية من غير إدراك منها؟ وهل المعجزة تكليف من رب العالمين القيام بها في تدعيم الإيمان به أم لتدعيم الايمان بمعجزات الأنبياء؟ وهل المعجزات أساطير خرافية تطورت عبر العصور أم هي وقائع دينية حقيقية حدثت مصدرها الخالق وليس اجتهاد ذاتي يختص به الانبياء في تمكينهم القيام بالمعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة الانسانية التي باتت اشكالية بحد ذاتها بمعزل عن تعالقها الشديد بالمعجزات بمن أوجد تلك القوانين الثابتة بالطبيعة التي تمكن العلم من اكتشاف بعضها واهميتها الكبيرة في حياة الانسان في عدم القدرة الانسانية خرقها الدائم، واشكالية من اوجد قوانين الطبيعة فيها وزرعها لتنظيم وضبط الطبيعة من جهة واهمية هذا الربط في تأثيره على حياة الانسان ليس على صعيد تدعيم الايمان الديني وانما على صعيد كافة مناحي حياة الإنسان المتعالقة بالطبيعة بما لا قدرة على انفكاكهما حيث يترتب على مثل هذه الفرضية بالانفكاك أن لا يبقى شيء موجود اسمه طبيعة وكذلك لا يوجد بعدها شيء مخلوق يسكن الارض يسمى إنسانا.

                  

هامش

1. وليم رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح إ مام ص 218


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس