تموضع الذات في تجريد اللغة

 

تموضع الذات في تجريد اللغة

05 غشت 2020

د علي محمد اليوسف


نبدأ بتساؤل يتعالق في صلب تموضع اللغة بالأشياء، وتموضع اللغة بالطبيعة، وهل من الممكن هذا ومتاح تحقيقه في تموضع الإنسان بالأشياء؟ أم لا. إذن ما الفرق بين لا مركزية الإنسان في التموضع عن لا مركزية اللغة في تموضعها بالأشياء والموضوعات الخيالية بالنيابة عن الإنسان كهوية بيولوجية وذات غير متجانسة علائقيا بموضوعات إدراكها؟

بالحقيقة أن الإنسان لا يتموضع بالموجودات الخارجية في لامركزيته العضوية كذات مستقلة نوعيا في الطبيعة، ولا حتى تموضعا نفسيا معها بسبب الاختلاف العضوي البايولوجي كصفات وماهية بين الإنسان ومدركات تموضعه في عالم الموجودات الخارجية، وإنما العامل الأساس في لا مركزية تموضع الإنسان بموجوداته المدركة هو (اللغة) فقط، فباللغة التجريدية وحدها يجد الإنسان حقيقته التموضعية الشيئية لمدركاته دونما فقدانه تذويت الوعي بكينونته الذي يلازمه أن لا يضيع في عملية الموضعة العضوية بغيره غير المتحققة أساسا بغير موضعة اللغة التجريدي للإنسان المنفصلة عنه وهو التموضع اللغوي التجريدي في الأشياء..

لا يوجد شيء في الطبيعة يمتلك البنية العضوية البيولوجية التي يتجانس الإنسان بها تموضعيا ما عدا الإنسان نفسه كنوع يتوحد بصفات وماهية تمنحه تجانسا عضويا بيولوجيا عاطفيا بغيره من نوعه لا بغيره من كائنات...

الموضعة الحقيقية للفرد هي التجانس العضوي البيولوجي بين الإنسان ومواضيع إدراكاته الحسّية وهذا ما لا يمكن تحقيقه مطلقا، فالإنسان يتعامل مع الحيوان والنبات وكل شيء في الطبيعة بالتمايز النوعي عنها (بيولوجيا، لغويا، ذكائيا، عقليا، زمنيا..) ويبقى كائنا نوعيا مختلفا عنها في كل شيء تقريبا لذا هو لا يضيع ذاتيته الهووية لغويا في الموضعة الإدراكية للأشياء كموجود أنطولوجي في الطبيعة، كما هو خلاف شأن اللغة في ضياعها من الإنسان في موضعتها الأشياء بالانفصال عنه.. مدركات الأشياء المتموضعة لغويا تفقد اللغة خاصيتها التجريدية الإفصاحية عن الإنسان كنوع يمتلك اللغة تجريدا لوحده. بينما تكون اللغة المتموضعة بالأشياء هي مدرك لغوي لها، وليس مدرك لغوي للإنسان فقط.

بل الذي يضيع من الإنسان وينفصل عنه هو اللغة المتموضعة في مواضيع مدركاته وليس ذاتيته النوعية المحدودة بمركزية الذات في الجسد. التي هي – الموضعة الشيئية - بالنسبة للإنسان في موضعة لغوية ذاتية وليست موضعة بيولوجية عضوية مع الأشياء مستحيلة في كل الأحوال.. الإنسان يتموضع مع ذاته أمر مقبول وفي غاية الاهمية فهو يعقل ذاته بنفس وعيه مواضيع مدركاته الخارجية، وبذلك يمتلك هويته ووعيه بكينونيته المتفردة كنوع من موجودات الطبيعة متمايز عنها...

إنما أن يتموضع الانسان مع مدركاته الاخرى عضويا بغير توسيط اللغة فهو محال حيث لا يبقى الإنسان محتفظا بخصائصه الانفرادية بما هو أنسان كنوع متفرد ويفقد خاصية اللغة التعبير عن ذاتيته ومدركاته كإنسان يمتلك خصائص التمايز عن غيره من كائنات الطبيعة في كل شيء تقريبا.

الإنسان كائن عضوي كموجود انطولوجي على خلاف تام عن جوهر اللغة وخصائصها النوعية التي هي ليست وجودا انطولوجيا تلازمه وإنما هي توسيط تجريدي (ملكة نوعية) تلازم الانسان إدراكيا ولا تتعارض مع بيولوجيا الجسد في كل شيء تقريبا. لذا التموضعية عند الانسان في الاشياء هو بداية ومنتهى تموضعه لغويا في لا مركزيته لكنها بالوقت نفسه لا تضّيع هويته الذاتية في امتلاكه النوعي المتميز للغة، فهو بهذا المعنى يكون الانسان مركزيا في موضعته الاشياء لغويا ولا يتموضع بها عضويا بيولوجيا كما تفعل اللغة. تموضع اللغة في الأشياء لا يفقدها إدراك الإنسان لها تجريدا، بل اللغة تكتسب هي ان تكون خاصية الاشياء التي تموضعت بها. وتكون جزءا تكوينيا من الشيء الذي تموضعت فيه.

اللغة المتموضعة في الموجودات وهي لغة تجريدية تصبح خاصية للشيء المدرك أكثر منها خاصية لغة تعبير الانسان عن ذلك الموضوع تجريدا منفصلا عن مدركه الشيئي لذلك الموضوع. موضعة اللغة في الشيء هي غير تعبير التجريد الانفصالي عنه. كما هو المعتاد في إدراك العقل للأشياء.

لكن الإنسان في تموضعه اللامركزي الانفصالي عن مواضيع مدركاته بتوسيطه اللغة لا يشبه بذلك مركزية الحيوان الذاتية السلبية في عدم إدراكه وعي ذاته، فالحيوان الذي لا يمتلك كما هو الإنسان اللغة يستحيل تموضعه في الأشياء المحيطة به ليس في عدم التجانس البيولوجي معها كنوع ولكن لعدم امتلاكه اللغة كوسيط يموضع له موجودات الطبيعة ويسهل عليه إدراكها وفهمها، كذلك في عدم امتلاك الحيوان الإدراك الحقيقي للأشياء والموجودات التي هي إدراك "عقلي – لغوي" مركب لا يعمل أحدهما بمعزل عن الاخر في غير تلازمهما معا... فإدراك الانسان الذكي هو جوهر لغوي بينما يكون ادراك الحيوان محدودا جدا لعدم امتلاكه الخاصية النوعية اللغوية التي هي جوهر فهم الاشياء والتواصل معرفيا بها. مركزية الحيوان ميزته انه لا يتموضع مع غيره من موجودات في افتقاده لغة التموضع التي تجانس التكيّف بغيره من مكونات العالم الطبيعي الخارجي.

تموضع اللغة والذات الانسانية

تموضعية الانسان في مدركاته كما مر بنا لا تتم الا بواسطة توسيلية اللغة تجريديا، فاللغة في موضعتها الأشياء والموجودات تفقد ماهويتها النوعية الخاصة بها كتفكير عقلي تجريدي خاص مصدره الإنسان وحده لتصبح جزءا من مكونات مدركات العقل المتموضعة فيها اللغة في العالم الحسي وفي عالم الخيال الإنساني، بمعنى إنابة العقل اللغة في الموضعة بدلا من ذات الإنسان أو نيابة عن عضو بيولوجي منه، وهذه الإنابة التموضعية للغة يفقدها التذويت العقلي المستقل في الإنسان لتتلاشى في تموضع مدركاتها في تعبيرها اللغوي عنها كموضعة وليس كتجريد تعبيري بمعنى انفصال الشيء واقعيا عن دلالة تعبير اللغة عنه تجريديا كما هو الحال في إدراكاتنا الحسية للأشياء... بمعنى لغة ادراك الشيء هي لغة التعبير عن الشيء في تموضع اللغة فيه. وليس ادراكه في تفكير لغة العقل التجريدية في الذهن عنه فقط.

أي أن إدراك أي شيء عقليا يعني فقدان الانسان لغة التعبير عنه بعد إدراك العقل له، وموضعة اللغة التي اصبحت في الموضعة جزءا من الشيء ولم تعد يمتلكها الانسان كفرد لوحده بل يمتلكها المجموع المتلقي كخاصية في الشيء الذي تموضعت اللغة فيه.. وليس خاصية تفكير الذهن الصامت عنه الانفرادي. ولا يمكن فهم الاشياء الا من خلال قراءة اللغة المتموضعة فيها فرديا وجماعيا. وفهم الشيء هو فهم اللغة التعبيرية التجريدية الكامنة بالأشياء تموضعيا التي يستمدها العقل من موضوعاته المدركة ولا يخترعها ذاتيا بلغة لا يكون مصدرها الموجودات.. فالعقل بلا أشياء يدركها يستحيل عليه اختراع لغة معبّرة عن اشياء حقيقية يمكنه التواصل بها...فاللغة بلا موجود ولا موضوع مدرك لا تكون تفكيرا يحمل دلالة عن شيء حقيقي.

الإنسان وجود غير متجانس بالصفات والماهية مع جميع الكائنات الطبيعية من حوله، لذا فهو في عدم المجانسة هذه لا يفقد لا مركزيته الذاتية بل يتخلص من اغترابه النفسي في تسخيره اللغة موضعتها الاشياء المهمة من مدركاته. فباللغة وحدها يصبح الانسان متموضعا في مدركاته دونما فقدانه هويته البيولوجية النوعية المتفردة كنوع لغوي يمتلك ذاتيته. ولا يفقد أيّا من خصائصه الماهوية الفيزيائية ما عدا فقدانه لغة التعبير المتموضعة بالأشياء، ولا يفقد الانسان خاصية توليد اللغة المتجددة بلا انقطاع ولا توقف ايضا. وفي هذا يصبح الانسان كذات مفكرة ذكية موجودا فيزيائيا في موضعة اللغة لأشيائه ومدركاته.

من السهل على الانسان كما هو من المستحيل عليه ايضا الخلاص من اغترابه الذي تفرضه عليه موضعة الاشياء في ادراكه التجريدي لها، بغير توسيطه اللغة والفكر في الانابة التموضعية بدلا عنه. وكل تموضع لغوي فكري لمدركات العقل لا ينتقص من لامركزية الانسان النوعية لكنهما في نفس الوقت (اللغة والفكر) يفقدان خصائصهما النوعية كتوليد عقلي في موضعتهما مدركات العقل في المواضيع والاشياء.

فيصبح إدراكنا لكل شيء في العالم الخارجي هو فهمنا لغة تعبير ومحتوى فكري لكل مدرك قبل كل شيء آخر يتعلق بلغة العقل الداخلية بالذهن. بمعنى إفصاحات اللغة المتموضعة بالأشياء هي مصدر لغة العقل التجريدية في تفكير الذهن. نرى من المهم فهم وتفريق لغة العقل المعبّرة عن مدركاته وبين لغة العقل التي تموضعت خارجيا في تلك المدركات وكلا النوعين هما تجريد لغوي في تعبيرات الانسان عن مدركاته..

ما الفرق بين التموضع والاغتراب؟

الفرق بين التموضع والاغتراب وكلاهما من مفهومات الفلسفة، هو أن التموضع عملية إدراك الأشياء في التعبير التجريدي اللغوي العضوي في ملازمة اللغة الاشياء التي تموضعت اللغة بها. تجريد اللغة في التعبير الميكانيكي الآلي عن الاشياء هو عملية انفصال تام بين الدال والمدلول الشيئي بمعنى أن اللغة هنا بقيت تمتلك هويتها الذاتية العقلية كوسيلة إدراك تجريدي ولم تعد جزءا تكوينيا من الاشياء التي أكسبتها اللغة موضعتها الإدراكية للعقل.

اللغة في تجريدها التعبيري تكون لغة تعبير عن الاشياء وتبقى محتفظة بهويتها الخصائصية النوعية أنها توليد عقلي فكري تجريدي، لكنها في موضعتها الاشياء في التعبير عنها لا يبقى هناك خصيصة تدعى لغة بمعزل عن مكوّنات مدركات العقل في موضعة اللغة لها لتكون اللغة وحدها هي الموضوع الذي يتمثّله العقل صوريا تجريديا وتحتفظ كل ماديات الادراك ومواضيع الخيال بوجودها النوعي المستقل كموجودات العالم الخارجي.

التموضع هو تعبير عملية الادراك لموضوع تصبح فيه اللغة جزءا تكوينيا من الشيء، وليس تعبيرا تجريديا منفصلا عنه. تعبير اللغة التجريدي هو انفصال تام بين دلالة انفصال الدال عن المدلول، انفصال اللغة عن موضوع إدراكها، بينما يكون تموضع اللغة بالشيء هو تشيييء الشيء كموضوع مدرك وجودا وقد أصبحت اللغة فيه جزءا من تكوينه المادي وتلاشت في تكوينه الماهوي والصفاتي خارج تجريد العقل.

التموضع الشيئي للغة هو التعبير عن الإدراك الفلسفي لمفهوم الاغتراب الذاتي self- Alienation، وعندما يلازم الاغتراب النفسي بمفهومه الاستلابي السلبي الإنسان، فإنما يفقده بذلك قدرة التكيّف والانسجام الطبيعي مع المحيط. لذا يصبح التموضع اللغوي في مدركات المحيط هو المخرج الوحيد الذي يعمل على إعادة الانسان إلى علاقاته السوية اللااغترابية المنسجمة مع المحيط حتى لو كان هذا الانسجام زائفا لا يحقق الانسان فيه أصالة وجوده الحقيقي. الاغتراب الذاتي عند الانسان لازمة لا تنفصل عنه مدى الحياة كون الاغتراب يستحدث نفسه على الدوام.

التموضع اللغوي في التعبير عن مدركات المحيط هو أحد وسائل الخلاص من الاغتراب النفسي للإنسان، والفرق بين التموضع بمعنى الاندماج اللغوي بالشيء وبين الاغتراب بمعنى العزلة والانفصال عن الذات والاشياء معا هو أن التموضع عملية إدراك الاشياء ليس في تجريدها اللغوي فقط بل في مواضعة فهم اللغة لها، وبهذا المعنى تصبح اللغة تشييئا لشيء هي جزء من تكوين لا يمكن انفصالها عنه.

بينما يكون الاغتراب حالة من الاستلاب النفسي الذي يعانيه ويكابده الإنسان في فقدانه موضعة ذاته نفسيا مع كيانه البيولوجي والمحيط، الذي لا تستطيع اللغة التموضع في مدركات الاستلاب الاغترابي ذاتيا عند الفرد، لذا تكون لغة الاغتراب لغة تجريد توصيفي منعزلة تماما عن الموضعة الموضوعية وليست لغة تموضع جدلي مع الموضوعات حتى الخيالية منها.

اللغة التموضعية تكون جزءا تكوينيا من المواضيع والاشياء التي دخلتها اللغة في موضعتها لها وليس لغة تجريد ادراكها الذي تنفصل فيه اللغة عن موضوع ادراكها كما في تجريد العقل للغة. لغة إدراك العقل للوجود المادي هو قراءة لغة تموضع اللغة في اشيائها المدركة له. العقل لا يستحدث لغة إدراكية لشيء غير مدرك منه.

تجريد اللغة والادراك المثالي

حين أجمع فلاسفة التجريبية الوضعية الحديثة أمثال بيركلي وجون لوك وديفيد هيوم بأن كل شيء في مدركاتنا من العالم الخارجي أنما يتم ادراكه بالذهن لغويا تجريديا وليس هناك وجود عالم خارجي لا تدركه حواسنا اولا. وبذلك لم يغادروا الفهم التجريدي للغة كوسيط معرفي. من حيث اعتبارهم كل شيء مدرك في العالم الخارجي لا يدرك حسيا لغويا تجريديا لا وجود مادي له في الواقع والمحيط.

التجريبية الوضعية المنطقية ذهبت إلى أن كل شيء في عالمنا الخارجي لا يدرك حسيا ولا يتمثله العقل تصورا لغويا تجريديا يصبح لا وجود حقيقي له في عالمنا الخارجي وليس هناك امكانية ادراكه ما لم يقبله تجريد اللغة في التعبير عنه وقبله الحواس. وهذا خطأ قاتل يلازم فلاسفة المثالية فالوجود سابق على كل فعالية يقوم بها العقل. وبغياب الموجودات لا يبقى هناك عقلا مفكرا ولا لغة تعبير عن الاشياء والموجودات. وسبق لي مناقشة هذه الاشكالية في العديد من كتاباتي المنشورة.

في المقابل من المثاليين ذهب الماديون إلى استحالة وجود تفكير ذهني وتعبير لغوي لا يسبقه وجود مادي، وكلاهما (المثاليون والماديون) يلتقيان في نقطة هامة جدا، تلك هي اقرارهما بقصد أو من دونه أن اللغة تجريد تصوري عقلي في فهم العالم الخارجي والتعبير عن مدركات العقل، ولا توجد غير هذه الآلية تيسّر للعقل إدراكه للأشياء. سواء أكان الفكر سابقا الوجود (مثاليا) أو بالعكس الوجود اولا والفكر واللغة ثانيا (ماديا) وكلاهما نضح الوجود في ادراكه والتعبير عنه. الوجود المادي المستقل هو الذي يمنح العقل قدرة ادراكه ويمنح قدرة اللغة التعبير عنه.

العديدون من المنظّرين يقعون في ترويج مفهوم ابتذالي مبسط أن الفرق بين المادية والمثالية هو في اسبقية الوجود على الفكر أم اسبقية الفكر على الوجود؟ وحل هذا الاشكال التناقضي يحسمه (منهج) التفكير وليس تراتيبية التفكير لمن الاولوية في علاقته بالمادة.

فاين نضع اختلاف تجريد اللغة بينهما بين التفكيرين المادي والمثالي؟ وهل هو موجود فعلا بضوء ما ذكرناه قبل أسطر في موضعة اللغة للأشياء؟

بالنسبة لفلاسفة المثالية الذين يجدون كل فهمنا للعالم موجود بالذهن فقط، وما لا يدركه العقل حسيا لا تستطيع اللغة التعبير عنه في ملازمة الفكر واللغة للعقل. هؤلاء اعتبروا الموضوع المادي هو لغة تعبير العقل عنه، وخارج تجريد اللغة لا توجد مواضيع يمكننا ادراكها ولا فهمها. ولم يميزوا بين الوجود المادي لشيء لا يكون بالضرورة هو الشيء ذاته المدرك عقليا وتستطيع اللغة التعبير عنه.

بعبارة أكثر وضوحا المادة شيء واللغة شيء آخر حتى وإن اجتمعا في علاقة جدلية عقلية واحدة لا تنفصل في الإدراك والتعبير. كما وهو الاهم (منهج) التفكير العقلي في إدراكه الأشياء هو الذي يخلع على الموضوع نوعية ذلك الادراك مثاليا أم ماديا. الشيء المدرك موضوعيا لا ينتج (منهج) التفكير به بل يعطي صفاته وماهيته، والعقل المفكر هو الذي يتناول مدركاته بلغة ممنهجة مادية كانت أم مثالية.

فإذا كان وجود الاشياء المستقل خاصيته وجوده بالعالم الخارجي بصفاته، فأن اللغة لا تنوب عن هذه الموجودات الا في التعبير التجريدي عنها. وما لا تطاله اللغة بالتعبير من موجودات فهي موجودة باستقلالية عن ادراكها أو عدم ادراكها كما هي مستقلة وجودا سواء عبّرت عنها اللغة أم لم تعبّر عنها. كل موجود متعيّن في الطبيعة هو وجود مستقل إدركه العقل أم لم يدركه.

لذا فالمثاليون لا يقرّون تموضع اللغة داخل المدركات الخارجية بل يؤكدون تموضع اللغة داخل الذهن الانساني فقط وليس خارجه في الاشياء التي يدركها العقل. كذلك نجد الماديون لا يعترفون بموضعة اللغة خارج مدركات العقل المادية في الذهن على اعتبار تلك المدركات الموجودية سابقة على لغة الادراك التجريدي عنها، ولا يمكن أن تكون موضعة اللغة لها تشكل جزءا غير تجريدي منها وفي فهمها.

الحقيقة الملتبسة بين المنظرّين الباحثين ماديين ومثاليين كلاهما يتجاهلان حقيقة موضعة اللغة في الأشياء لا يفقدها تجريدها بل يدعمه، وهم ايضا لا يفرقون بين المادة واللغة في علاقة الإدراك العقلي التجريدية بينهما باختلافها عن علاقة المادة باللغة في تموضعها التعبيري الكامن بها والذي يمكننا إدراكه بتجريد اللغة ايضا. كذلك لا يقرّون أن اللغة ليست خاصية العقل وحده بل هي خاصية كل مدركاته من الاشياء والمواضيع المستقلة بالطبيعة والمواضيع المتخيلة بملكة الذاكرة العقلية..

نؤكد هنا أن اللغة خاصية إنسانية تنتج عن ملكة التفكير الذهني، وتفقد اللغة هذه الخاصية النوعية عندما نجدها أنها تموضعت في الاشياء جزءا غير منفصل عنها. كل موجود مادي هو تصور لغوي بحيث لا يفقد الموجود استقلاليته ولا تفقد اللغة تجريدها المتمايز عن موضوعها.

ونحن لا نستطيع إدراك الشيء دونما التفكير به ذهنيا وفهم صياغة التعبير عنه تجريدا لغويا. فتكون اللغة بهذه الحالة خاصية العقل كما هي خاصية الموضوع المدرك المتموضعة اللغة فيه. ونحن عندما ندرك تلك الموجودات بلغة التجريد فإنما ندركها كموضوع مادي أو خيالي مستقل بنفس أهمية أدراكه لغة تجريدية متموضعة في الاشياء المدركة.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس