اللغة فضاء التعبير المتعالي

اللغة فضاء التعبير المتعالي


د علي محمد اليوسف




تصدير: أعرف جيدا لا جدوى رغبتي زرع الالتزام بالفلسفة، لكن إيماني العميق الراسخ أن الإنسان أغلى قيمة بالحياة تجعلني لا أيأس من تكرار المحاولة. (ع)
تقديم:
سبق ونشرت مقالة فلسفية اولى بعنوان (نقد فلسفة اللغة والمعنى) كمفهوم عام رافق انبثاق نظرية المعنى وفلسفة العقل كتيار فلسفي طاغ منتصف القرن العشرين، وأعقبته بمقال ثان يشتغل على نفس الثيمة في نقد فلسفة اللغة بعنوان (فلسفة اللغة وتغييب الواقع)، وهذه المقالة الثالثة في نفس الموضوع الذي وجدت أنه يحتاج إلى مؤلفات عديدة يكتبها غيري وليست ثلاث أو أربع مقالات متناثرة لي...
إذا أردنا توجيه نقد فلسفي معمّق لما جاءت به فلسفة اللغة والتحول اللغوي من انحراف فلسفي غير طبيعي ولا أقول عنه تنظير فلسفي متجدد بمقدار ما هو محور ارتكاز دوران حول قضية لغوية تجريدية لا نفع قصدي معرفي متوقع منها, تبّنته بداية بشكله غير المتبلور بتطرفه الحالي تقريبا وفتحت أمامه الطريق واسعا الفلسفة البنيوية لتعقبها في التعكز المجاني عليه فلسفة جاك دريدا في التفكيكية بتطرف أكثر حدّة لتنبري بعدها على نفس التعميق الممنهج التأويلية والتحليلية والعدمية والمنطقية الحديثة في استئثار محور نظرية المعنى في اللغة عوض الاهتمام الفلسفي بمناحي إنسانوية أخرى وجدوها تجاوزها الزمن بحسب اجتهادهم الفلسفي في محاكاتهم التماهي مع ما بعد الحداثة، فليس من حقائق مرجعية هناك بقيت مثل العقل والإنسان والوجود والحياة ولا الطبيعة ولا الميتافيزيقا ولا الايديولوجيات كسرديات شمولية استهلكت نفسها بالتطبيق الفارغ من المعنى المطلوب تحقيقه...
لقد وصلت المعرفة الإنسانية حسب فلاسفة اللغة ونظرية المعنى اليوم مرحلة لم يعد هناك حقائق أو قضايا تستحق الاهتمام الفلسفي بها والأولى الأهم تدارك الخلاص من التضليل الفلسفي الذي أوقعتنا به نظرية المعرفة والعقل والوجود والإنسان والعلم وغير ذلك قرونا طويلة لنجد انفسنا أمام حقيقة أن الفلسفة لم تقل شيئا جديرا يستحق البناء عليه أورثه لنا تاريخ الفلسفة قبل وجوب مراجعتنا تصحيح كل الأخطاء الموروثة التي أوقعتنا اللغة بها في تضليل يقوم على ازدواجية الإضمار اللغوي الباطني في مخاتلة اللغة تضييعها المعنى في الظاهر السطحي الإلتباسي من التعبير على حد تعبير فلاسفة انصار نظرية المعنى والتحول اللغوي في الفلسفة.
لا يخفى على قارئ متابع بالحد الأدنى ثقافيا ولا أقول فلسفيا ألا استوقفته فلسفة اللغة والمعنى ونظريات التحول اللغوي وما راكمته من تجريد فلسفي لغوي تحليلي صرف زاد في ترّهل التجريد الفلسفي التاريخي المتوارث الممتد عبر قرون طويلة في منهج اعتمدته فلسفة اللغة في الإبقاء على أهمية التوازي الفلسفي مع الواقع الإنساني السوسيولوجي لا يقاطعه ولا يحتدم معه في تخارج التأثر والتأثير. فالفلسفة بكل مباحثها من ضمنها نظرية المعنى لم توجد لمهمة تغيير الحياة بل وجدت لفهم الحياة بمنطق الفكر اللغوي المجرد حسب أصحاب نظرية المعنى اللغوي المعاصرين.
نستطيع القول دونما الانزلاق إلى مواقع السرعة في إصدار الآراء إلى حقيقة أن الفكر المعرفي من أي منبع وأي شكل أتى لا يلتزم الإنسان ومصيره وجودا إنسانيا أفضل... مستقبله نحو حتمية الإهمال والزوال.... وإذا ما انبرى أحدهم القول أن الفلسفة كتجريد والالتزام كصيرورة واقعية تاريخية مسيران متوازيان لا يلتقيان ولا يتكاملان، فجوابنا أن أبرز فلاسفة الالتزام كان سارتر وعديدين آخرين اقتفوا أثره من بعده، حاولوا جعل الوجودية فلسفة ملتزمة ولو اقتصر الأمر عندهم على الأدب فلسفيا. علما أن الوجودية فلسفة أمعنت في تمجيد الذات وإعلائها شأن الفردانية بالحرية المسؤولة والوجود القلق بما يكون سببا كافيا يلغي ويسقط عن الفلسفة الوجودية نزعة الالتزام بقضايا الانسان إيجابيا...فالالتزام بالوجودية هو منتهى السلبية في المفهوم الاستعاري الذي نفهمه أيديولوجيا... لكنها أي الوجودية التزمت الانسان كمصير فاجع بالحياة ولم تفهم الالتزام بمستقبل أفضل له لا يلوح بالأفق.
هذا التفريق الوجيه الصحيح لا يلغي مبدأ الالتزام بالإنسان كوجود ومصير بغض النظر عن الفهم المحدود الذي يرى الالتزام هو في تنمية الجوانب الانسانية المتفائلة مستقبليا فقط.
وأذكر بهذا الصدد أن شيخ فلاسفة القرن العشرين الانكليزي براتراند راسل صاحب التحليلية المنطقية الحديثة رغم معارضته منذ معاصرته الأكاديمية لفيتجنشتين في رسالته الفلسفية المنطقية وفلسفة اللغة والمعنى التي باتت صلب الاستغراق غير المسؤول في تأكيد اجترار النحو اللغوي الصرف الذي سيقود الفلاسفة الى أن يصبحوا علماء اختصاص باللغة وليس فلاسفة معرفة تبحث عن معنى وجود الإنسان: قال راسل تعريفي للفلسفة أنها نظام منطقي يحاول فهم الحياة بمغايرة جديدة غير مألوفة وليس من مهمّاته تغييرها.. في تكريسه نزعة فلسفية مثالية تسعى تجذير منهج الضياع والتيه في مراكمة تجريد اللغة فلسفيا وترهلها الزائد غموضا في انهمام الدوران حول محورية النص قراءة تجريدية بما هو تخليق لغوي يحمل فائض معنى غائب على الدوام. ومن الواضح في عبارة راسل الرد المبّطن على عبارة ماركس الشهيرة الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم بدلا من السعي لتغييره.
وفي مشادّة كلامية حدثت بين راسل وفيتجنشتين في إحدى المؤتمرات الفلسفية، خاطب هذا الاخير قائلا: أنك يا راسل لم تفهمني فهما صحيحا يوما ما على الدوام، فأجابه راسل ببرود الانكليزي وحضور حجته البديهية أجلس مكانك فأنت لا تستطيع التعبير فلسفيا عما تريد توصيله من معنى. علما أن راسل كان كتب مقدمة رسالة دكتوراه فيتجنشتين (رسالة منطقية فلسفية) وأجازها اكاديميا هو وجورج مور بالإشراف عليها ومناقشتها.. ويعترف راسل أنه لا يعيبه تبديل آرائه الفلسفية على مدار الساعة.
فلسفة اللغة ونظرية المعنى رغم الجوانب التي استثمرها بعض الفلاسفة بمنهج متوازن حينما لم يصادروا خاصية اللغة الفكرية أنها نتاج عقلي متطور أنثروبولوجيا - سوسيولوجيا رافق تاريخ الإنسان بالاحتدام مع واقع الإنسان بالطبيعة والتقاطع معه من أجل تغييره، منذ تلك الأحقاب السحيقة لم يكن الإنسان مهادنا الطبيعة منقادا محايدا لها ومتكيّفا كالحيوان معها بالفكر السلوكي القطيعي، ميزة الفكر الحيّة هي الخاصّية أنثروبولوجيا أن الفكر لا يوازي الحياة ولا يبني نظاما له من الخيال اللغوي الوهمي الأعزل في التماهي مع موازاة ما تجيء به الطبيعة من كوارث تلحق الأذى بالإنسان لم تكن الطبيعة لها دورا سببيا بها، لذا أراد الإنسان التغيير بالفكر الذكي محاولته استرضاء مسبب هذه الكوارث والظواهر الطبيعية التي لا يجد تعليلا شافيا لها وما ينتابه من خوف منها فأوجد قيمة العبادة بالفكر الأعزل باسترضاء الآلهة فقط بما يخدم سلامة بقائه علي قيد الحياة على الاقل.
وفيما أعقب ذلك من أزمان وجدنا الإيمان بالإله يصادر الفكر الذكي الواقعي عند الانسان ليس في مهادنة الواقع ولكن في محاولة درء الكوارث بالغيبيات الميتافيزيقية بما يبعد أذى الطبيعة عنه وإدامة بقائه. بمعنى التعبير عن الارادة الانسانية الفاعلة في تغيير نمط الحياة بالفكر الاعزل الذي لا يعرف التجربة ولا التطبيق عصر ذاك. منذ تلك الازمان السحيقة كان الفكر ملازما نقده الوجود الانساني في نشدان الأفضل وليس مهادنة الطبيعة في التكيّف السلبي معها، الذي هو ميزة تكّيف الحيوان مع الطبيعة في الانقياد القطيعي السلبي لها. تكيّف الإنسان الايجابي مع الطبيعة كان في التمرد عليها ومحاولته إخضاع معطياتها وظواهرها بما يخدم تقدمه بالحياة. حينما كانت فلسفة الدين هي الفلسفة الاولى في القرون الوسطى الأوربية، كان ذلك أحد اسباب الانحطاط الحضاري في دول أوربا قاطبة، فالكنيسة التي قادت الدين بسطوتها اللاهوتية الوضعية، إنما قادت الفلسفة وجعلتها تابعة وراء ما يقوله الدين في الكنيسة وليس وراء ما تقوله تعاليم المسيح في الانجيل الذي تعددت نسخه الكاربونية المكتوبة، كما هو الحال اليوم في قيادة فلسفة اللغة الفكر التنويري عبر إدخاله نفق العدمية في تراكمية البحث عن المفقود في اللامعنى أو بالأحرى في المعنى المصادر لغويا
ما يهمنا لو نحن حاولنا سحب بعض من هذا الإسقاط الأنثربولوجي على واقع الفلسفة المأزوم بملاحقة تجريد معنى اللغة عندنا اليوم لكنا نرفض مصادرة الوسيلة التغييرية للفكر في تأكيد مساره المنحرف المتوازي مع الواقع الانساني كما ترغبه فلسفة المعنى والتحليل اللغوي التراكمي وليس ما ترغب تحققه الحياة في طبيعتها المتطورة نحو الافضل على الدوام.
نخلص إلى القول لا يوجد فكر ابتدعه الإنسان في مساره التاريخي حتى الفكر الديني المقدس منه على لسان الأنبياء لم يكن محتدما اصطراعيا مع واقع الحياة في وجوب التغيير نحو الأفضل. الفكر المهادن الذي يوازي الواقع ولا يحتدم معه ولا يقاطعه لا يحمل معنى الفكر الحقيقي ولا قيمة تاريخية له. ولو لم تكن الأديان في جوهرها الميتافيزيقي الغيبي غير التطبيقي سوى على صعيد تنظيم السلوك والأخلاق والقيم الرفيعة التي تهتم بسعادة الإنسان الأرضية والأخروية لكانت الأديان اندثرت من حياة الإنسان منذ ازمان إذا ما اسقطت من اهتماماتها الانسان قيمة عليا بالحياة. ولم تلعب دور الريادة في تقاطعها مع الانحراف الدنيوي.
من المسائل التي نتجاهلها اليوم أن الفلسفة الأوربية التي نستنسخها في التراجم وكتب العروض الهامشية العربية لا تصنع الحياة في انقيادها وراء الايديولوجيا السياسية ولا الاقتصادية ولا العلمية الصرفة أو أية معرفة أخرى، بل هي تترك ما لقيصر لقيصر. وتعمل على استمرارية تاريخ الفلسفة يسير في متوالية نقد المعنى في اللغة المجردة بلا حدود ولا معنى متحقق من هذه العملية، وهذا يثير حفيظة بعض حفظة صرعات الفلسفة الغربية عندنا من العرب بموقفهم الملكي أكثر من الملك بأن الفلسفة ليست ايديولوجيا تغيير بل هي حرث في بحيرة عن كنز المعنى المفقود في موجود معنى اللغة الضائع.
نظام اللغة في موازاة نظام الأشياء
اللغة فضاء من التعبير المتعالي على نظام الاشياء في وجودها المادي أو حتى الخيالي كمواضيع، وتفتقد اللغة تجريدها المنفرد في موضعتها داخل تركيبة إدراك الأشياء كمتعينات موجودية في حياة الانسان. بهذا المعنى تكون اللغة اكتسبت هويتها الواقعية الجمعية في فقدانها هويتها الانفرادية التجريدية بالوعي الفكري الانفرادي. اكتساب اللغة مجتمعيتها وسوسيولوجيتها الطبيعية هو في نفاذها الى أعماق الاشياء بدلا من التسطيح الوجودي التعبيري الذي تعيشه اللغة منعزلة عن محيطها الحيوي التعبيري الذي هو عالم الموجودات في الطبيعة وفي الحياة التي نعيشها وتعيشنا.
اللغة لا تكتسب هويتها الجمعية في اعتبارها موضوعا تحليليا تراكميا محوريته نظام المعنى الخصائصي كلغة مرتكزها نحو اللغة وقواعدها التركيبية والمجازية والتوليدية والاشتقاقية في البحث عن معنى دلالي في تشكيل هويتها التجريدية ذاتيا بل تكتسب اللغة هويتها المجتمعية كنظام سلوكي في التعبير عن العالم الخارجي بنظام تعبّر عنه اللغة كشكل ويكتشفه الفكر كمضمون في موجودات عالم الأشياء وليس باللغة كتعبير دلالي مجاله نحو وقواعد استعمالات اللغة بما هي لغة أدب ونص في متراكم المعنى المضاف لها قرائيا تداوليا في مسلسل لا نهائي في اختلاق تحليلية لا حصر لها من التأويل المضاف المتراكم غير المنفرز خطأه من صوابه كونه لا يستند الى مرجعية لا في العقل ولا في قبلية النص بعد عملية تخليقه التحليلي مرات تليها مرات.
محاولة تفسير ظواهر الحياة في متراكم تجريد اللغة لا يجعل من الواقع الانساني يتحرك قيد سنتمترا واحد، التوازي اللغوي مع الحياة الذي تعمل فلسفة اللغة عليه كثيمة مستحدثة بكل طاقتها اللغوية المجردة مضيعة وقت في قضية فلسفية لا مستقبل ينتظرها ولا واقع ميداني يؤيدها.
من الامور التي يصعب تمريرها بسهولة أن فلسفة اللغة ونظرية المعنى أضافت بعدا تجريديا ثالثا على تجريد اللغة في توازيها مع الواقع وعدم الاحتدام به من أجل تغييره أعمق بكثير مما دأبت تاريخية الفلسفة التغذية به والتناسل البقائي بممارسته على امتداد قرون طويلة جدا من هراء التوازي الفلسفي مع الواقع الانساني وفي تهميش حيويته بالتخارج النقدي مع الفكر.
ما يحسب للأيديولوجيا السياسية بغض النظر عن مجالات الصح والخطأ في التطبيق هو أنها نقلت الفكر من تجريد اللاواقع الى ميدان تطبيق الواقع... رب اعتراض مقبول يذهب الى أن الفلسفة ليست نظرية في الايديولوجيا وإنما هي فهم تجريدي منهجي نظامي نسقي كلي متقدم لفهم العالم بطرق واساليب غير معهودة سابقا في سياقاتها التعبيرية التي نعيشها برتابة اشباع غرائز البقاء البيولوجية فقط.
 في جزء من الإجابة لماذا تخاف الفلسفة من تذويت خصائصها التجريدية في منظورات الأيديولوجيا، ولا يصح العكس؟ مخافة الايديولوجيا انغماسها بالتجريد الفلسفي أن يجعل منها نظاما لا واقعيا؟ لقد حشرت الفلسفة نفسها في المنطق وفي الرياضيات وفي مختلف العلوم الطبيعية وفي التاريخ وفي الأنسنة الأنثروبولوجية ولم تزحزح الفلسفة تلك المجالات عن نظامها الخاص كمفاهيم تعمل بمعزل عن الفلسفة لأنها ليست ارادة تغيير بل هي ارادة فهم وتفسير فقط , وبقيت الفلسفة تركض لاهثة وراء مجالات التطبيق في العلوم والحياة والتاريخ ولكن بلا جدوى توازي متحققات العلوم والايديولوجيا في التقدم الى أمام بالحياة بما هي حاضر في صيغة المستقبل..
لماذا يتم التغاضي عن الواقع الخارجي كنظام قائم بذاته في فلسفة اللغة ونظرية المعنى حين تكون اللغة تجريدا نقديا لماهيتها كلغة لها قوانينها الخاصة في النحو والقواعد والتركيب والتوليد والمجاز والاشتقاق وغيرها من قواعد وضوابط نظام اللغة التي تحدّها من حيث هي نظام في ملاحقة معنى الدلالة التجريدية المعبّرة عن الاشياء (لغة) فقط وليس من حيث هي تعبير عن المعنى المكتشف أو الواجب معرفته في نظام وعالم الاشياء بما يطورها ويغيرها كمفاهيم تقوم عليها حياة الانسان.
تجاهل فلسفة اللغة والمعنى لأهم ميزة في طبيعة اللغة هو أنها وسيلة تغيير الواقع بالتخارج معه تطوريا هي الأخرى، اللغة في تطويرها الواقع تكتسب هي ايضا فاعلية التغيير والتطوير من الواقع وعالم الموجودات.
معنى الاشياء في فلسفة اللغة وفائض المعنى هو نظام مواز منفصل تماما عن معنى نظام اللغة كخاصية تجريد فهمها وليس لفهم العالم بها ومن خلالها، نظام تمتلكه اللغة كمقومات بنيوية غير مستمدة من تأثيرات المجتمع ولا من تأثير هذا الاخير على نظامها الخاص بها. هذا ما تروّج له وتبتغيه تحليلية فلسفة اللغة والمعنى بما هي نظام لغوي مستقل لا علاقة له بالإنسان ولا بنظام الموجودات في العالم الخارجي.
فلسفة اللغة والمعنى نسق تجريدي يوازي نظام الحياة ولا يقاطعه. نظرية المعنى في فلسفة التحول اللغوي تعتبر اللغة نظاما يمتلك خاصية التجريد والانفراد الذي لا يلزم ولا يترّتب على فهمه وتعديله والاضافة له معرفة حقيقية لوقائع الحياة التي تحكمنا ونتحّكم بها جدليا، فاللغة لم تعد في نظرية المعنى ظاهرة مجتمعية تواصلية وتداولية سلوكية سوى على مستوى التسطيح المفهومي بالقياس المقارن لخصائصها الفلسفية الجديدة المستحدثة كنظام تجريدي قائم بذاته ولذاته فقط.
 هناك حقيقة يحاول البعض القفز من فوقها تلك هي من الصعب الموائمة بين من يعتبر نظام عالم الاشياء هو تجريد لغوي مقفل معناه بالذهن الصامت على نظام اللغة الداخلي وليس بالجدل المادي مع تخارجه الموضوعي. وهو ما تتبناه فلسفة اللغة ونظرية المعنى في التفكيكية والتأويلية على وجه الاستشهاد بهما. وبين من يعتبر اللغة نظام اجتماعي سلوكي مرتبط أشد الارتباط في تسيير أمور الحياة التي يحياها الانسان ولا تعيشها اللغة منعزلة عنها وحدها، وهو ما تدور حوله جميع الفلسفات المادية المعاصرة التي انحسر بريقها بعد تعثّر النظريات السياسية التطبيقية الاعتياش عليها كإيديلوجيا مجتمعية تهتم بمستقبل الانسان انتهىت من تاريخ الفلسفة.
حين يعتبر عالم اللغة الفيلسوف شومسكي اللغة توليد فطري انفرادي لا مجتمعي ولا سلوكي لملكة عقلية ذكية يمتاز بها الانسان عن الآلة وعن الحيوان، نجده يدين المنهج السلوكي النفسي في مجتمعية اللغة الذي يعتبر اللغة تكيّف اجتماعي سلوكي متطور متعايش في تداخل اللغة كظاهرة اجتماعية يتناسب تطورها الذاتي طرديا مع تطور دورها كسلوك مجتمعي وظائفي تواصلي تأثيري جدلي في حياة الانسان.
وهذا الفهم لا يقدم ولا يؤخر أذا ما كانت اللغة تولد كغريزة فطرية ملازمة للطفل تبتدعها وترعاها بالتنمية المستدامة قابلية الفرد التوليدية الذكية للغة، أو أذا كانت اللغة ظاهرة مجتمعية تتطور جماعيا سلوكيا ولا تلغي ابتكارات الفرد التخليقية التوليدية في إغنائها. فاللغة أبداع توليدي فردي لا يتكامل بالنمو المطرد الا في وسط مجتمعي يحتويها. ويعبر كواين أن اللغة هي فن اجتماعي، وكان فينجشتين عبّر عن معنى أعمق حين وصف تخييل اللغة هو تخييل لتصور ما يجب أن تكون عليه الحياة. ولم يقل ما يجب ان تكون عليه اللغة.
هل أهمية اللغة تجريد يوازي الواقع ولا يقاطعه بالتغيير؟
البحث في المجردات الفكرية في نظرية المعنى لا يمنحنا وحده منفردا المعنى الحقيقي لقضايا الحياة التي هي مصدر افكارنا ولغتنا الحية التي نعيشها. فاللغة كائن اجتماعي حي تستقي حيويتها الوجودية التطورية حضاريا من واقع عالم الاشياء الديناميكي المتطور انثروبولوجيا مجتمعيا. وتجاهل هذه الوسيلية الوظيفية اللغوية المعرفية يراد لنا منها التسليم بما أطلق عليه الفلاسفة (الذرية المنطقية) في التحليل اللغوي عند فينجشتين والتي أصبحت مقولة ارتكازية اعتمدتها الفلسفات البنيوية، التفكيكية، التأويلية، مفادها يجب على المنطق اللغوي تحقيق نوع من التوازي ما بين الانطولوجيا وما بين اللغة، هذا التوازي الافتعالي الذي تكرسه وتبحث تجذيره فلسفة المعنى في اللغة والذرية المنطقية هي تمثل واقعة وجوب انفصال المعنى اللغوي التجريدي عن نظام معنى الاشياء في وجودها الواقعي المستقل كنظام يحكم حياتنا وينظمّها ولا مجال التكامل ولا التكافل بينهما في تحميل اللغة معنى لا علاقة له بتوسيل اللغة اداة وصول وظائفي يقود الى معنى نظام الاشياء بالحياة. التوازي الذي تنادي به فلسفة اللغة في نظرية المعنى بين نظام اللغة الهوياتي الخاص بها كرموز تعبيرية وعلامات صوتية إيحائية، وبين نظام الاشياء الذي تحكمه استقلالية الموجودات، يجعل من مبحث اللغة في نظرية المعنى يحرث في مياه بحر بعيدا عن الواقع كجزر إنقاذ له يتجاهلها. ربما كنا نحن الشرقيين نفهم الأمور دائما بجدية أكثر من اللازم.



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس