أيهما أسبق إدراكيا الفكر أم اللغة؟

أيهما أسبق إدراكيا الفكر أم اللغة؟

                                                        30 أبريل 2020

د علي محمد اليوسف




تصدير: عن تساؤل أسبقية الفكر على اللغة أو العكس كما في عنونة المقالة ممكن الإجابة المختصرة ومصادرة الجدل الفلسفي قول أحدهم (الفكر واللغة) كلاهما وجهان لعملة واحدة ولا يمكن أجراء نوع من التفاضل والاسبقية التراتبية أحدهما في سبقه الآخر، وهي إجابة صحيحة ودقيقة كافية علميا ولغويا لكنها تحمل جانبا واحدا من تلك العلاقة التي تجمع الفكر باللغة تختلف عن تفسير الفلسفة في علاقتهما بالوجود.
في معرض إجابتنا الفلسفية أود هنا تثبيت تناقض ملتبس يبدو في عبارة عالم وفيلسوف اللغة دي سوسير قوله: "وجود الاشياء يسبق فكرتنا عنها" وهذا منطق مادي سليم ليس فلسفيا وحسب وإنما علميا أيضا، لكن لنتأمل تكملة العبارة حين يقول: "الا أنه يمكن القول بأن تصوراتنا هي التي تخلق الأشياء"؟ كيف؟ تعبير فلسفي مثالي محض، فتصورنا العقلي أو حتى فهمنا للشيء ذهنيا بالتفكير به لا يلزمنا بإقرار وجوده المادي ما لم يكن موجودا قبل تفكيرنا العقلي به.
طبعا هذا التناقض في عبارة واحدة، ينكر فيه دي سوسير موضوعة فلسفية معرفية أن مثالية التفكير (الفكر سابق على الوجود) تقود لمثل تلك الاستنتاجات الفكرية الخاطئة، في تقاطع أن وجود الشيء يسبق فكرتنا عنه، وهذه نظرة علمية مادية صحيحة، أما اننا ندّعي استطاعتنا خلق أشياء من تصوراتنا عنها فهو لا يستقيم مع أي منطق عقلي أو علمي لا ماديا ولا مثاليا ايضا.
وجود الشيء لا يحدده التفكير به، وإنما يحدد الفكر وجود الشيء السابق على الفكر. هذا التوضيح ربما يكون أحاديا خاطئا في تأويل عبارة سوسير لغويا أذ كان ما يقصده دي سوسير وهو الأرجح أن تصوراتنا الذهنية هي التي تخلق الاشياء في التعبير لغويا عن وجودها وليس في خلقها كموجودات مادية بالفكر المجرد.
هنا نود توضيح التباس ربما يوقع البعض فيه من الذين قرأوا عبارة دي سوسير التي يبدو أنها متناقضة هو وجوب التفريق بين إدراكنا وجود الأشياء لن يكون ويحصل بغير واسطة الفكر والتعبير اللغوي عنه (تمثّلا لغويا صوريا) وهو مبدأ سليم ليس لأحد انكاره فالعقل لا يدرك الاشياء من غير تصوره وتمثلاته الفكرية اللغوية لها، أما الخطأ هو أن نتصور الافكار المجردة يمكنها خلق وإيجاد الاشياء كموجودات حسيّة بالتفكير بها والتعبير عنها لغويا بالذهن وتخليقها بالعقل.
حتى مواضيع الخيال التي يفكر بها العقل تجريدا خياليا ويكون مصدرها الذاكرة وليس الواقع الخارجي المادي فهي ترجع الى أنها موجودة بالواقع أو قام الفكر المخزّن بالذاكرة تصنيعها داخل ذهن الانسان فقط ولا وجود حقيقي لها على أرض الواقع. ويكون تخليق العقل لها بالفكر التجريدي واللغة ليس خلقا لها بالفكر وإنما في التعبير عنها كموضوعات فقط. فليست كل مواضيع الخيال هي بالنتيجة تكون وقائع مادية بعد تخليق العقل لها ذهنيا...نضرب مثلا تقريبيا على ذلك:
في رواية المسخ للروائي العالمي فرانز كافكا يستيقظ بطل الرواية ليجد نفسه قد تحول حشرة صرصورا فهل مثل هذا الحدث الذي جرى تقليبه فكريا خياليا في ذهن المؤلف على امتداد صفحات الرواية يمكن أن يصبح واقعة حقيقية بالحياة التي نعيشها بمحددات طبيعية سوية في إدراك الأشياء وفي التعبير عنها لغويا؟ أي إذا جاز للمؤلف خلق أنسان صرصار بالخيال الفكري روائيا فهل ممكن أن يتحّول هذا المسخ موجودا حقيقيا ندركه بالحياة؟ مؤكد مستحيل حصول ذلك.. أذن ليس حتى الخيال الإنساني يستطيع جعل مواضيعه التخيلية وقائع مادية نعايشها في حياتنا كموجودات حقيقية...كما ليس بمقدور الفكر المادي المعّبر عن الاشياء أعادة خلقها الانطولوجي من غير سابق وجودها القبلي.
في تناقض عبارة سوسير "تصوراتنا يمكنها خلق الأشياء" الذي من المرجح أن تكون اللغة خذلته التعبير الدقيق عما يقصده، نجده ينسف أبجدية الفكر المادي حين يقول بإمكانية المفاهيم المدركة واللغة خلق وجود الأشياء، فالجدل المادي الماركسي والوجوديين يقول أن وجود الشيء يسبق أدراكنا له، وليس بإمكان تصوراتنا أن تخلق واقعا حقيقيا لوجود الأشياء، وإنما وجود الشيء يخلق تصوراتنا التجريدية والمفاهيم عنه، واللغة أو التصورات المنبثقة عن الموجودات لا تخلق حقائق الوجود ماديا، وإنما الوجود يخلق حقائقه المادية لغويا تجريديا بعد أدراك العقل لوجودها كمواضيع مدركة وأشياء متناثرة في العالم الخارجي.. وجود الشيء سابق على تعبير الفكر واللغة عنه..
أما إذا أخذنا في نفس السياق مقولة فينجشتين ودي سوسير وغالبية علماء وفلاسفة اللغة أجماعهم (اللغة هي الفكر) فيكون معنا أدراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكر من حيث أن الفكر نتاج العقل، العقل وحده عاجز عن تحقيق وجود الاشياء ماديا بغير وسيلة تعبير إشاري رمزي أو لغوي مفهوم تداوليا، فمثلا عقل المجنون يفتقد وجود الاشياء التي أماهه لأنه عاجز عن التعبير لغويا عنها بعد عجزه عن أدراكها أدراكا عقليا منظمّا أولا. من حيث أن الفكر السليم هو انعكاس تجريدي وصوري لغوي في فهم الواقع والوجود منظّما. والعقل يسبق اللغة في أدراكه للشيء. العقل هو الذاكرة الفاعلة ومستودع الافكار ومكمن انطلاقها، لذا فإن أدراك العقل للوجود والأشياء يسبق إدراك العقل للأفكار أو اللغة المتعالقة بالتبعية التراتبية لوجود الاشياء.
والإدراك اللغوي مستمد من علائقية أدراك وفهم العقل للأشياء. وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا (الحواس+ العقل+ الوجدانات)، وكذلك وجود الانسان في الطبيعة ومحددات كينونته وجوهره.
إنه لمن المهم التذكير أن الوجود المادي للأشياء نوعان، الاول موضوعات العالم الحسي الخارجية، والثاني موضوعات الفهم الوجداني الخيالي التي لا تدرك حسيّا مثل القيم، الضمير، الأخلاق، والفنون، والنظم والعادات والتقاليد.
إنه من المهم جدا ألا نغفل أن أروع الافكار هي التي تصوغها عبقرية اللغة، وأبرز المظاهر لذلك ما نجده في إنتاج المثقفين والفنانين للإبداع الأدبي بأجناسه والفنون بأنواعها. ولا يعطي وجود الاشياء المادية اللغة جمالية التعبير العبقري لها بل العكس تماما فاللغة تضفي على الموجودات جمالا لا ينازعه فيها سوى جمال الطبيعة...إن عبقرية اللغة تسبق عبقرية الفكر كما لا تقل أهمية اللغة في التعبير عن أهمية التفكير العقلاني بها، واللغة وسيلة العقل لا ثبات الوجود. ولغة الخيال أدراك غير فاعل لواقع الاشياء والموجودات في تعطيله التواصل المثمر.
أهمية إدراك اللغة للأشياء:
إدراك العقل للوجود والاشياء أدراك ناقص ولا فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الإفصاحية عنه كموضوع. الوجود يتم أدراكه عقليا عن طريق الحواس كموضوعات مستقلة فقط قبل أدراك اللغة لها، الوجود من غير أدراكه لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير، والوجود لا يدرك مباشرة كونه مفهوم مجرد بخلاف محتوياته وتكويناته من الموجودات المادية.
اللغة كشف أدراكي عقلي للأشياء والموجودات، والوجود الواقعي لا ندركه أدراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا أدراك اللغة له، ومن غير الادراك العقلي وتزامن الإدراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة.
وتعجز أية فكرة مدركة عقليا، أن يكون إدراكها مثمرا تواصليا منتجا من غير إدراك اللغة لها تداوليا، والفكرة التي لا تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة إدركها العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها وسط وجود الاشياء.
العقل بلا لغة تفكير جوّاني أعزل، واللغة من غير وصاية تفكير العقل عليها لا يمكنها التعبير عن نفسها، فاللغة بلا موضوع لا قيمة لها.. والعقل من دون تعبير اللغة يبقى تفكيرا صامتا لا نستطيع فهمه فهو غير مدرك الا من صاحبه فقط..
 في ختام هذه الجزئية من المبحث نجد في دعوة كروتشة أحد فلاسفة الحياة أن أهمية اللغة، يجب أن تكون مقتصرة على دراستها (جماليا) على صعيد الشعر تحديدا، فيها الكثير من التطرّف في تجاوز أهمية دراسة أبعاد اللغة كوسيط تداولي تعبيري، فلسفيا، اجتماعيا، وثقافيا واقتصاديا. ودراسة اللغة جماليا هو دراسة لواحدة من خصائصها الوظائفية العديدة وليس منتهاها، كما أن في اعتبار الفلسفة المعاصرة مركزية اللغة التحول اللغوي في تناول مباحث الفلسفة شيء مبالغ به على حساب ركن واهمال معالجة قضايا فلسفية تهم الحياة والانسان لا يكون مرتكزها النحو اللغوي الدلالي...
ومثل ذلك ذهب هيدجر في أهمية دراسة اللغة، وايضا الشعر تحديدا لتبيان المقاصد الوجودية من اللغة، وهي دعوة ايضا تستبطن أهمية اللغة جماليا، في تعطيل ربما السمات والخصائص المتعددة للغة وظائفيا. ويضيف هيدجر أن اللغة وهي من تركيبات الآنية، إلا أن هذا التركيب لا يظهر الا في حالة الوجود الزائف، في صورة ثرثرة يومية، وهذه لا تتضمن حوارا بمعنى الكلمة أو تبادلا للأفكار. وقد ترتّب على ذلك أن يصبح الوجود الحقيقي هو الصمت.
أن أهمية أدراك الشيء والتواصل به ومن خلاله ومعرفته لغويا، هو أكبر من أهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية وأهمية اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في أن تكون تداولية تواصلية ذات حيوية وأثراء نافع للحياة، والوجود من غير وسيط اللغة كتعبير دلالي لا روح ولا حيوية فيه.
جدلية وعي الذات
فلاسفة الوجودية ممثلة بسارتر، فهمت وعي الذات مثاليا مغايرا للمادية، في تغييبها حمولتها الديناميكية في وجوب وعي الذات جدليا بالموضوع كما أراده ونادى به هيدجر، وأن ماهية إدراك الذات لوجودها الحقيقي لا يتم من دون ديناميكية تمنحها حضورها الجدلي بالحياة. كما ذهب هوسرل أن يكون وعي الذات في ماهيته هي حمولته (القصدية). ليلتقي بفهم هيدجر ويفارقان كل من ديكارت وسارتر رغم اختلاف هذين الاخيرين بينهما أيضا، أذ كما أراد وعبر عنه ديكارت في فهمه تحقق الوجود الانساني بالفكر المجرد، كذلك فعل سارتر في تفسيره وعي الذات مثاليا رغم الصلابة الوجودية المادية التي يحملها سارتر، وسيأتي توضيح جوانب اشكالية أكثر من واحدة في فهم وعي الذات فلسفيا.
وهذه التفسيرات المختلفة المتباينة هي إدانة لكوجيتو ديكارت في تفسيره وعي الذات في قراءة (أنا افكر إذن أنا موجود) التي تعتبر تفسيرا مثاليا ابتذاليا في ربط ديكارت وعي الذات بالفكر المجرد الذي لا وجود تموضع مادي له، في وعي الذات لنفسها كحقيقة وجودية في عدم تعالقها مع جدلية الموضوع، هذه الجدلية المفتقدة عند ديكارت التي لا تعطي كلا من الذات والموضوع ادراكا وجوديا حقيقيا لكليهما من خلال التناوب التبادلي في التأثر والتأثير، أن كان على صعيد الفكر أو صعيد واقع تموضعهما في تحقيق كل منها وجوده المتعالق بالآخر جدليا. هو ما أراد هوسرل ومن بعده هيدجر تصحيحه وجوديا، وفي أخفاق سارتر أن يكون له تفسيرا واضحا في تجاوزه لمقولة ديكارت المثالية رغم ماديته الماركسية.
إشكالية وعي الذات:
رغم وجودية سارتر الصلبة التي تستقي الكثير من اصوله المادية الماركسية التي خرج عليها سارتر الشيوعي, في تحديده القطعي أن وجود الانسان يسبق كل ميزة متفردة معطاة فطريا أو غريزيا أو مكتسبة عند الفرد، وفي إعطائه الانسان حقه الطبيعي في مطلق الحرية المشروطة بمسؤولية الانسان إيفائها حريته الفردية حقها على صعيدي توكيد حقيقته الانسانية كذات تعي وجودها في كل معانيها، وفي حمل هذه الذات جحيم الاخرين في الفهم الوجودي المشترك بينهما في محمولات الحرية المسؤولة، سعيا وراء تحقيق وعيه الاجتماعي وتوكيد ذاتيته الانسانية .
فسارتر لا ينكر على الانسان وجوده المأزوم بأكثر من مأزق تمليه عليه الحياة وتسلبه وجوده الحقيقي، وقرائن قهرية تلازمه عديدة مثل القلق، ولا معنى الحياة، والفزع، وآخرها خلاص الموت. رغم ذلك يعتبر سارتر الانسان أولا وأخيرا، فرد ضمن مجتمع لا فكاك منه ولا استغناء عنه، ويتكامل وجوديا معه. حتى لو كانت علاقته بالمجتمع نوعا من الاندماج في الكلية المغيبة عن ادراك وعي وجودها الاصيل في الحياة على حد تعبير هيدجر. أو بقي فردا اغترابيا وجودا عن الناسّية في الحياة والمجتمع الذي يمارس معظم انشطته في حياة مليئة بالرتابة في تامين حاجاته البايولوجية فقط.
بتلخيص العبارة فإن سارتر رغم وجوديته المادية التي يستقي الكثير من افكاره من اصوله الماركسية، أنما انزلق في المثالية حين سعى تغييب ديناميكية الوعي الذاتي في الحياة التي رفع رايتها هيدجر للإفلات من مثالية ديكارت في اعتبار وعي الوجود ناتج عن التفكير الذاتي المجرد. أن سارتر كما أشرنا سابقا الغى من قاموسه الفلسفي الوجودي أهمية فاعلية الانسان وارتباطه بالمجتمع في أضفاء نوع من الحرية المطلقة للفرد، في تضاده مع الماركسية، لتقتفي تأثيره هذا غالبية الفلسفات المثالية التي جاءت من بعده لعل في مقدمتها الفلسفة البنيوية في خروجها الفظ على قوانين الجدل المادي وقوانين المادية التاريخية، في العمود الفقري للماركسية كتاب راس المال الذي استهدفه ألتوسير بكل تشنيع فلسفي ابتذالي، ومثله وقبله فعل شتراوس في الخروج على الماركسية في كتابه (نقد العقل الجدلي).
بماذا تمّيز هيدجر في أطروحته حول فهم تعالق وعي الذات بوعي الموضوع تناوبيا؟ بمعنى أن الذات لا تستطيع إدراك نفسها وخصائصها إلا بتعالقها بموضوع ما مغاير لوجودها، وكذلك العكس بأن الموضوع لا قيمة حقيقية له ما لم تدركه ذاتا يحقق هو الاخر وجوده بها وفي تكامله معها.
هيدجر يؤكد فهمه الوجودي في تأصيل الإنسان وعيه الاصيل لذاته في تعالقه مع الموضوع والعالم الخارجي بنوع من الالتزام الحر الذي وصفه بالديناميكية في التبادل الجدلي التأثير بالموضوع او العالم الخارجي، ولا يكتفي هيدجر بهذا الدور الفاعل في وعي الذات نفسها من خلال الاندماج بالكلية الاجتماعية.
إذ عمد الى توضيح أكثر في فهمه الوجود المتمايز عن سارتر نجده بقوله:( الانسان ليست ذاتا منغلقة على نفسها، وانما هو وجود او وعي متجه بالضرورة القصدية نحو موضوع ما,واتجاه الوعي نحو الموضوع, وبهذه القصدية التي اشار لها هوسرل، يقول هيدجر: (اتجاه الوعي نحو موضوع، ليس وعيا بذاته وحسب، وانما(هو وجود حركي دائب يترتب عليه مباشرة أن يتجاوز الانسان ذاته ليتجه نحو شيء ما) (1).
فالوجود الانساني عند هيدجر هو وجود مفارق لذاته (ليتجه نحو العالم من حوله، وبمقتضى هذه الضرورة القصدية الوجودية، يتقرر وجود العالم الذي يدركه الوعي، ويستحوذ عليه – اي الوعي هو الذي يستحوذ – لذا يكون هذا النوع من وعي الذات انه وجود – في – العالم) (2).
ورغم أن سارتر اعتبر كوجيتو ديكارت في وعي الذات وتحقق الوجود الفردي، يعتبر مثالا لعدم تفعيل الذات بأكثر من التفكير المجرد الذهني حين اكد (أن الوعي الذاتي لا يحدث الا بتمثله شيئا غريبا عنه، فالوعي يولد موجها الى كائن ليس هو اياه). (3) ويذهب حبيب الشاروني أن سارتر يريد تحويل كوجيتو ديكارت الى قصدية وجودية دونما التضحية بالكوجيتو الديكارتي من جانب، ودون أن يضحي بالقصدية من جانب آخر. (نقلا عن الشاروني من كتابه سارترص108.)
بهذا الفهم أراد الشاروني التسويغ لسارتر حق الجمع بين متناقضين لا يربطهما جدل حقيقي، فلا يمكننا ربط كوجيتو ديكارت بالقصدية التي هي من اختراع هوسرل الا ضمن علاقة جدلية تجمع بين نقيضين يتحتم على أحدهما الغاء الطرف الاخر في انتاج الظاهرة الجديدة المستحدثة. لذا يكون الربط بين الكوجيتو والقصدية تلفيق فلسفي غير صحيح حتى لو ان قائله سارتر.
 وعي الذات لا ضير أن يكون تحققه ضمن الجدل مع الموضوع أو إحدى مظاهر الحياة، باشتراط تتحكم به قوانين الديالكتيك انه ليس تصارع افكار مجردة وانما تصارع تضاد من أجل البقاء للأصلح المتطور ضمن قوانين الطبيعة الجدلية في تخليق وانبثاق عن كل تضاد جدلي حقيقي مادي ظاهرة مستحدثة جديدة او واقعة مستحدثة تحمل ايضا تضادها الداخلي وهكذا.
من الجهة الاخرى ليس هناك اشتراط تمرير، أن رغبة سارترفي تسويغ الجمع بين ديناميكية هيدجر، وقصدية هوسرل في تأكيدهما إخراج كوجيتو ديكارت من مازقه المثالي، في جعل وعي وجود الذات الحقيقي أنما يقوم على ديناميكية ذاتية عند هيدجر، لا تتقاطع مع قصدية ذاتية عند هوسرل، وتنتهي المشكلة في صالح توفيقية سارتر التلفيقية. لا نعتقد أن مثل تلك الإشكاليات الفلسفية يمكن حلها في رغبتنا أن تكون كما نرغب فقط لا بما يرغبه التفكير الفلسفي.
الهوامش
 1، 2، 3، نقلا عن د. الزواوي بغورة، شذرات عن كتاب الفلسفة واللغة، عرض وتلخيص.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس