العقل
الاجرائي والجسد
30 أكتوبر 2019
30 أكتوبر 2019
د علي محمد اليوسف
توطئة
افكار هذه المقالة مستوحاة من مصدر كتاب الفيلسوف
الامريكي ريتشارد رورتي بعنوان (الفلسفة ومرآة الطبيعة) كما معلن عنه في هوامش
الاقتباسات، إلا أني فوجئت بأن الفصلين الأول والثاني من الكتاب لا يطرحان أفكارا
فلسفية وإنما هي آراء طبية تخصصية في علم وظائف الأعضاء والجهاز العصبي، وتتحدث بأسلوب
تخصصي معقد عن افتراضات مقارنة لكوكب آخر يسكنه أناس لا عقول طبيعية لهم كعقول أهل
الارض... وعمد المؤلف إجراء مقارنات غاية في التعقيد الفسلجي الوظائفي في علم
وظائف الأعضاء في تدعيم وجهة نظره في فرضية المقارنة التي اقترحها للتدليل على صحة
ما يريده.
ما وجدته في الكتاب المصدر احتجاب الآراء الفلسفية تماما
من الحضور في متون الفصلين الأولين من المحتويات، مما يجعل الباحث عن الفلسفة
بعيدا جدا عما يتحدث عنه الكتاب على أنه فلسفة معاصرة وليس كتابا في علم وظائف الأعضاء
والجهاز العصبي وعلم النفس الطبي التخصصي الدقيق.. لذا وجدت نفسي ملزما كي أقدم
مقالة فلسفية للقاريء أن أخرج على الكثير من آراء رورتي في علم وظائف الأعضاء
متوخيا البحث بين ثنايا فصلي الكتاب عن قطوعات وشذرات فلسفية تعينني عرضها
ومناقشتها بحجاج منطقي فلسفي مفهوم واضح..
وأستشهد على ما سبق لي ذكره بمثالين:
-
الأول هل بإمكاننا اعتبار ما هو فيزيائي لا يكون
بالضرورة الإدراكية عقليا؟؟ الجواب الذي عثرت عليه في فلسفة رورتي أن هذه بديهة لا
يمكننا مناقشة التسليم بها ولا مجال في مناقشة تخطئتها أو التحفظ في تعميمها على
جميع الظواهر الفيزيائية بدءا من ظواهر المادة وليس انتهاءا بظواهر السديم الكوني،
وهذا برأيي قطع يقيني غير سليم تماما... فكل متعين فيزيائيا يكون متاحا إدراكه
عقليا باستثناء بعض الظواهر الفيزيائية التي تخص فيزياء الكون والقوانين العامة التي
تحكمه.
-
المثال الثاني الذي لا يقل استعصاءا على قبول التسليم به
هو في اعتبار رورتي أحاسيس طبائع الجسم الداخلية النفسية المزاجية مثل الألم
والحزن والسعادة والبكاء والجوع والعطش والجنس إنما هي محض استثارات لألياف عصبية
وليست أستثارات عقلية ولا تعني استجابة الدماغ لها في وجوب الردود الإجرائية عليها
وإشباعها غريزيا ماديا..
لما ذكرته وغيره لا
يحضرني كثير استوجب مني التنبيه أن ما تحويه المقالة من أفكار هي من وحي الفصلين
الأوليين من كتاب رورتي لكن ليس بالضرورة الالتزام بما ورد فيهما من أفكار وجدتها
بعيدة عن التناول والاهتمام الفلسفي، لذا فالمقال هو أفكار خاصة بي واجتهاد شخصي
فقط في مناقشة اقتباسات عرضية من الكتاب..
في معنى علاقة العقل بالجسد
يذهب فلاسفة غربيون عديدون قدماء ومعاصرون إلى أهمية وجوب
التفريق في مسألة بديهية لا تحتاج عناء برهان عليها، هي فصل العقل عن الجسد ليس
على صعيد البيولوجيا وحسب وإنما على صعيد الوظيفة الفسلجية والمعرفية والفلسفية
التي تحتّم وجوب هذا الفصل القائم أساسا.. فالعقل ليس هو الجسد، ولا الجسد هو
العقل.. ووصاية العقل على الجسد لا تجعل من هذا الأخير جوهرا لا أهمية له من دون
ملازمة العقل له كجوهر ثابت.. فالجسد موجود في فاعلية العقل الحيوية الملازمة له وموجود
أيضا في عطالة العقل كما في حالات الجنون أو فقدان الوعي والأمراض العصابية
العقلية، وهذا يؤكد حقيقة أن العقل لا ينتج مقولاته الإجرائية عن مدركاته خارج
تكامله مع الجسد في كينونة إنسانوية واحدة.. كما لا قيمة حياتية من أي نوع لجسد لا
يتوّجه ويقوده عقل واع في السيطرة عليه
وتقويمه من الزلل المستديم والضلال المميت.
فالجسد والعقل هما جوهر واحد قيمة أحدهما لا معنى لها من
دون قيمة الآخر معها، فالإنسان جوهر متكامل يستمد كينونته من ثنائية جوهر العقل –
الجسد، بينما لا ينوب الجسد كجوهر عن جوهر العقل، ولا أهمية للعقل ولا للجسد من دون
تكاملهما العلائقي الفسلجي الوظيفي في إعطاء العقل والجسد جوهر كينونة الإنسان
الواحدة. والجسد كينونة غير كاملة حقيقتها تكمن في تواشجها مع العقل ولا يمكن
معرفة الإنسان بالعقل مجردا منفصلا عن الجسد وبالعكس أيضا.. فلا عقل حي فاعل بغياب
الجسد الصحي غير المريض عنه..
الجوهر الجسدي الناقص
الجزء المنفصل عن الجسد لا يمتلك صفة الجوهر
الكامل، فالذراع المبتورة عن الجسد لا تمثل علاقة الجسد بالعقل كجوهر متكامل ينوب
في تمثيله الجسد، بل تمّثل الذراع المبتورة جزءا علاقتها بالجسد تكون قبلية سابقة
على علاقتها الغائبة عن مدركات العقل لها كجوهر متكامل.. لذا تكون الذراع المبتورة
جوهرا غير كامل يعجز عن تمثيل الجسد كجوهر متكامل بمجموع أعضائه.. وهذا الأخير أي
الجسد لا قيمة حقيقية له في انفصاله عن العقل الذي هو جوهر إنساني.. بل استحالة أن
يكون هناك وجود حي حقيقي للجسد المتعافي في غياب ارتباط العقل التكاملي به... وهو
ما يرتّب لا أهمية أي جزء من الجسد أن يكون جوهرا كاملا ينوب عن تمثيل كامل الجسد.
الفصل بين العقل والجسد من الناحية البيولوجية والفسلجية
والفلسفية إنما يقوم على أن وظيفة العقل ليست إدراك الأشياء في وجودها الخارجي
المتّعين ماديا للتدليل على أهمية العقل في الوعي القصدي الادراكي للأشياء وحسب،
بل العقل ينفصل عن الجسد في تحديد مدركاته الواردة الواصلة إليه عن طريق الإحساسات
عبر الحواس من جهة، ومن جهة أخرى إدراك العقل للأحاسيس الواردة إليه التي يكون
مصدرها أجهزة الجسد نفسه داخليا ذاتيا متحررا من الحواس مثل غرائز النفس من شعور
الانسان بالعطش والجوع والسعادة والمرض والحزن والضحك والالم والبكاء والكآبة التي
هي تجليّات النفس المزاجية.. فهذه وعشرات غيرها هي أحاسيس يصدرها الجسد على شكل إيعازات
ترد عقل الانسان عبر منظومة الجهاز العصبي لا علاقة للحواس بها فهي أحاسيس يصدرها
الجسد داخليا وليست إحساسات تصدرها الحواس خارجيا ناتجة عن مدركات الأشياء في
العالم الخارجي.. والعقل يتعامل مع الإحساسات والأحاسيس على أنهما وسيلة إدراك واحدة
لا انفصال بينهما إلا بمقدار أهميتها التراتيبية في مدركات العقل الواصلة إليه.. ونجد
مهما في تعالق مع هذا التوضيح ضرورة عدم القفز فوق حقيقة وحدة الجسد مع النفس في
علاقة لا انفكاك فيها، وهي علاقة لا تشبه ولا تتعين بضوء علاقة العقل بالجسد
كجوهرين متلازمين بالتكامل الوظيفي الإجرائي وليس بالاندماج العضوي البايولوجي
العفوي كما هو في علاقة النفس بالجسد فهما كيان واحد بخلاف علاقة العقل والجسد
كجوهرين متكافئين تكامليا..
ويجمع العديد من الفلاسفة على (أن جدول وعي الأحاسيس من
غير جسد لا يعقلها العقل )(1)، وما تجدر الإشارة له بهذا الخصوص أن رورتي ينكر أن
تكون الاحاسيس التي مصدرها النفس في الجسد وأجهزته البيولوجية التي يتكون منها
الجسد داخليا مثل جهاز الهضم والجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية وجهاز العضلات
وغير ذلك داخليا وعنها جميعا تصدر الاحاسيس كما في حالات الالم وأمزجة النفس
المتنوعة العديدة التي ينكرها رورتي أن تكون (عقلية) بل يعتبرها استثارة لألياف
عصبية لا علاقة للعقل في أدراكها ولا علاقة له في ردود أفعال أشباعها ومعالجتها..
وعليه نكون غير مجانبي الصواب قولنا أن الجسد هو الوعي
الكامل لمدركات العقل، وتبقى الإحساسات الصادرة عن الحواس تجاه العقل، والاحاسيس
الصادرة عن انفعالات وطبائع الجسد جوّانيا كليهما من نوع الوعي الناقص غير الكامل
الذي يقوم العقل بتوحيدهما وتشكيلهما بهذا التوّحد وعيا كاملا كمدركات عقلية يرتّب
عليها مقولات العقل الاجرائية.. فلا معنى لشعور الانسان بالجوع والعطش ورغبة الجنس
والالم والحزن من غير تكامل جسد - نفس يحتويها ويصدرها على شكل إيعازات تستثير العقل
عبر الجهاز العصبي كي يتم اشباعها إجرائيا... كما لا معنى لإحساسات الحواس المنقولة
عبر الجهاز العصبي من غير أسبقية الجسد على العقل في استلامه الاحساسات كمستودع
تخزين لما يطلبه العقل من خزين معرفي بالذاكرة عند الحاجة للبت بها تفسيرا، تعليلا،
علائقيا، وإجرائيا أيضا.
العقل جوهر لا- مكاني...... ديكارت
يعتمد ديكارت مقولته (العقل جوهر لا مكاني) فبأي معنى أو
أي معيار يمكننا الذهاب معه؟؟ علما أن ديكارت يعتبر الاقانيم الجوهرية القارة
الثلاث هي (الله، العقل، المادة..). كما يرد على لسان الفيلسوف المعاصر ريتشارد
رورتي أن أفلاطون كان يمكن أن يكون أكثر قربا من ديكارت بخلاف أرسطو، في مسألة
الفصل الديكارتي بين العقل والجسد واعتبارهما جوهرين متمايزين يمتلكان الاستقلالية
أحدهما عن الآخر. ونجد أن ديكارت محق بما ذهب له بضوء اجتهادنا أنه لو كان العقل
جوهرا (مكانيا) لما كان امتلك القدرة على إدراكه المادة التي هي خاصّية امتداد
متحرك في الزمكان، لذا عندما تكون ميزة العقل (لا مكانية) كما يرى ديكارت فهو بهذا
المعنى يخرج العقل من الثبات ليكون جوهرا غير محدود في قابليته رصد الحركة
والامتداد والتغيير والتحولات في المادة.. أي يكون العقل زمانيا متغيرا وليس
مكانيا ثابتا، فالمكاني كجوهر عقلي ثابت يدرك المحدود مكانا الثابت المتجانس معه
في ثباته المجرّد عن صفات وتحولات التغيير بخلاف (اللامكاني) بتوصيف ديكارت الذي
هو ميزة العقل في إدراكه متغيرات المكان المتعالقة معه باستمرار في الزمان والمكان،
ف (لا- مكانية) العقل كما ينعت بها ديكارت العقل هي في حضوره الزماني الإدراكي للأشياء
في ثباتها وفي حركتها مكانا على السواء.. فالعقل بتعبير ديكارت (هو جميع المحركات
التي لا تتحرك) وأصلها عبارة أرسطو في المحركات التي لا تتحرك(2) هنا بهذا المعنى
يكون العقل (نوس Nouse) جوهرا يدرك الحركة والتغيير في المادة ويستوعبهما، ولا يكتفي بإدراك
المادة في امتدادها ولا في ثباتها النسبي الزائف، باعتبار المكان فضاء مادي ممتد فلا
بد للعقل من ملاحقة حركات الاشياء المادية فيه وانتقالاتها وتغيراتها الدائمة
المستمرة.. وفي مقاربة معنى ما ذهبنا له يرى ديكارت إمكانية فصل العقل عن الجسد
بالمنظور الفلسفي في اعتبارنا العقل جوهر عديم الامتداد يقاطع المادة التي هي جوهر
ممتد.(3) هنا التقاطع المقصود لا يأتي بمعنى التضاد غير المتعايش علائقيا بالآخر،
بل بمعنى التمايز المتعايش في الوظيفة تكامليا مع الضد.. ميزة العقل أن لا يكون
مكانيا هو في قدرته أن يلعب دور الزمان في إدراكه الأشياء المتحركة المتغيرة
باستمرار.. وبذلك يكون ديكارت مصيبا في نعته العقل أنه جوهر لا مكاني.. مؤكدا أهمية
العقل الزماني في ثباته الإدراكي للأشياء في حركتها... والعقل الثابت المكاني
المجرد عن زمانيته لا يقوى إدراك الأشياء في حركتها أي في ثباتها المكاني ولا في زمانيتها
المتغيّرة على الدوام..
أنه لمن المهم التنبيه أن العقل ثبات في وجوده
البايولوجي لكنه متغير غير ثابت زمانيا - مكانيا في إدراكه حركة الأشياء في
تغيراتها وانتقالاتها، لذا يكون العقل بهذا المعنى (لا مكانيا) تعبير دقيق صائب
لديكارت.
والجوهر (اللا- مكاني) للعقل عند ديكارت رفضه كانط
وستراسون حسب رورتي باعتباره فكرة غير متماسكة مثّلت القرن السابع عشر. حيث كان من
مألوف التاريخ الفكري تصور حدوث أشياء غريبة في فكرة الجوهر في ذلك القرن(4)، وهو
رفض غير مقنع وتعبير لغوي مبتور فلسفيا.. فهما كانط وستراسون كانا محقيّن في اعتبارهما
أن الجزء لا يمّثل جوهر الكل، فمثلا ذراع الانسان المبتورة هي ليست جوهرا يمثل
الانسان كاملا ولا يمثل الجسد كاملا أيضا، كما لا يكون الذراع جوهرا لا- مكانيا له
قدرة الحركة والامتداد التي هي خاصية مادية فيزيائية يترتب على العقل الانساني
كجوهر ثابت لا- مكاني امتلاكه زمانية أدراكها.
وفي انفصال العقل عن الجسد لا يفقد الانسان ماهيته
الجوهرية وبتعبير ديكارت(العقل والمادة كائنان متمايزان لا يعتمدان أي شيء آخر
لوجودهما )(5).. فماهية العقل لا يكتسبها من المادة موضوع الادراك الحسي - العقلي، لكن بمقدور العقل أن يكسب هو المادة
ماهيتها في الادراك الحسي لها فقط وليس بمقدور العقل أكساب الموجودات ماهياتها
بمعناها الانطولوجي (وجود مستقل) الذي هو حق مكتسب في وجود المادة (ظواهر وماهية)
كمعطى أزلي لموجودات الطبيعة لا يحتاج إلى وجود ماهوي يكتسبه في أدراك العقل له فهو
تحصيل حاصل مكتسب بالفطرة الانطولوجية في الطبيعة كوجود مستقل عن الادراك العقلي
له..
الفكر الذي هو نتاج عقلي متخارج مع مواضيع الإدراك يكتسب
ماديته من موضوعه المتخارج معه إدراكيا.. ولكن هذا المعيار العلائقي بين الفكر
والمادة لا يصح استنساخه بعلاقة الفكر مع العقل.. فالعقل مادي بالفطرة الخلقية قبل
الاكتساب لصفة المادي له بالمعرفة المنطقية التجريدية.. بينما تكون مادية الفكر
مكتسبة موضوعيا بالتخارج مع مواضيع إدراكه وليست المادية من الخصائص الذاتية للفكر
المجرد بل من خصائص اكتسابه لها موضوعيا في علاقة ديالكتيك متخارج بين الفكر
والموضوع..
ويعبّر ديكارت قائلا: ( لا شيء أسهل للعقل معرفته أكثر
من معرفة نفسه )(6) وأن أقرب شيء للعقل هو ذاته , وحسب مداخلة ريتشارد رورتي أنه ينسب لكثير من
الفلاسفة إصرارهم القول أنه لا معنى أطلاقا لتحديد مكان لحدوث الفكر داخل الجسد،
وهو تعبير فلسفي غامض ومعقد على التفسير الدقيق الا بضوء التمييز بين ما هو
المقصود تحديدا بالعقل (نوس Nouse ) أو (مايند Mind) أو (لوغوس Logos) عن اختلافه
بمعنى (برين Braine) الذي يعني
العقل والدماغ أيضا... ونجد من السهولة نفسها أن نقول بضوء ذلك أنما يعقل العقل
نفسه في أدراكه معرفة الاشياء والموضوعات الخارجية ولا يوجد تعبير آخر يعطي الجملة
معناها أكثر من اعتبارنا العقل تفكير مستمد من موضوعات إدراكه الخارجية وموضوعات
تفكيره الداخلية معا تكامليا.. ومعرفة العقل لذاته القريبة منه إنما تتم في تفكير
العقل بموضوعات إدراكه ذاتيا ليس إلا.. وألا نكون مجبرين الأخذ بالكوجيتو
الديكارتي أن معرفة العقل تتم بالتفكير الذاتي المجرد من موضوع إدراكه.. أنا
افكر.. من دون تحديد التفكير بماذا؟؟ وهو المطب الفلسفي الديكارتي الذي تناوله الفلاسفة
بالكثير من المثالب بحق كوجيتو ديكارت الناقص..
وكما سبق لنا التذكير به أن التباس التعبير في ما هو
المقصود(نوعيا) من العقل تحديدا وبدقة يكون في وجوب إخراجنا العقل من التعميم
الفلسفي المجرد الذي يعني أن العقل هو تفكير بالفكر المنطقي المجرد المقطوع الصلة بمدركاته
وكفى، هذا غير كاف لتنويرنا كيف يستطيع العقل أن يعقل نفسه بسهولة لا إجرائية كما
يذهب له ديكارت، بمعزل عن الوظيفة الفلسلجية العصبونية التي لا يكون العقل عقلا(دماغا)
من دونها..
التفكير عبر اللغة هو السمة الجوهرية التي يمتاز بها
العقل لكنها لا تمثل (كل) وظائف العقل لأن العقل منظومة لا تحد من الفعاليات الحيوية
الواسعة المهام يصعب علينا حصرها بالفكر المفّكر ذاتيا.... العقل لا يكتفي
بالتفكير المجرد المنطقي المتماسك فقط وعدم إصداره (مقولاته) الاجرائية العابرة
للفكرة التي هي ميزة عقلية أكثر أهمية من مجرد عملية الادراك الفكري الصوري
التجريدي للأشياء.
ما يصدر عن المادي فهو مادي
يقول رورتي على لسان رايل Rylean أن حالات المزاج هي صفات العقل والطباع فلا
تتطلب وسطا (لاماديا) كأساس وأنما تتطلب الانسان.(7) وهذا دليل قاطع على الخلط بين
أن يكون العقل تفكيرا استيعابيا غير إجرائي وبين أن يكون أساسا ماديا إجرائيا في
معالجة مدركاته. كما أن النفس وما تصدره من إيعازات الأحاسيس العواطف والوجدانات
والآلام وغيرها إنما تكتسب ماديتها من مادية الوجود الإنساني مصدر فعاليات النفس
التي هي جزء من جوهر كينونة الإنسان كجسد مادي.. وكل ما يصدر عن المادي هو مادي
حتى لو كان على مستوى التفكير أو أحاسيس النفس.. فهي أي صفات العقل والطباع وما
تصدره النفس لا تحتاج وسطا غير مادي على حد تعبير رايل في الافصاح الذاتي عنها
لكنها في ذات الوقت تحتاج الانسان كوجود مادي من دونه لا يمكننا تصور وجود
انفعالات نفسية تصدر عن إنسان.. وعليه تكون صفات العقل والنفس العاطفية والوجدانية
والآلام إنما هي في المحصلة النهائية إجراءات مادية يتحسسها الشخص الذي يصدرها
بغية استثارة منظومة الجهاز العصبي والدماغ في وجوب معالجتها إجرائيا من جهة وفي
التأثير التواصلي مع الآخر قدر تعلق حاجة الحالة النفسية معرفة الاخرين بها.. كما
في تعبير النفس عن الحب والفرح والسعادة والحزن والألم وهكذا..
ثم نتساءل كيف لا تكون صفات العقل المزاجية لا تحتاج
وسطا لا ماديا في الوقت الذي تحتاج الانسان كجوهر مادي جسمي ممثلا بجوهر العقل
المادي أيضا كما يذهب له رايل؟؟ صحيح أن الاحاسيس النفسية صفات مجردة عن دلالاتها
المتعينة ماديا وليس كما هو حال غيرها من إدراكات الانسان للأشياء المادية.. وصفات
العقل المزاجية لا تحتاج سوى اللغة وبعض إيماءات الجسد أحيانا في التعبير عنها كاستثارة
نفسية - عصبية لكنها تبقى الاحاسيس في المحصلة صفات مادية نفسية مصدرها العقل
المادي ولم تأت من فراغ لا مادي غير معروف ولا متعيّن هو الجسد المادي قرين النفس
مصدر المزاج والعواطف والوجدانات..
وبحسب رورتي أيضا فإن الفلاسفة يأخذون على ديكارت أنه يمنح
الإحساسات صفة اللامادية من غير مسوّغ مع أنها الصفة المميزة للعقل.(8) وهذا مصداق
ما ذهبنا له في تفسير عبارة رايل المناقضة تماما لديكارت التي يأخذها عليه رورتي
مثلبة خاطئة بالانتصار لتعبير رايل الخاطيء مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين
رايل الذي قصد الأحاسيس وبين ديكارت الذي قصد الإحساسات.. أن رورتي يقرّ بأن كل
مظهر لأي شيء موجود في الواقع هو حالة دماغية بالمنهج المادي.. لكنه ينكر أن تكون
الاحساسات مدركات عقلية بل هي استثارات لحزم عصبية لكل حالة فقط ولا علاقة للدماغ
بها ولا في ردود الافعال عليها.
إن من المهم توضيح أن ما يصدر عن المادي هو مادي
بالضرورة العلائقية المتخارجة المحكومة بعلاقة الفكر بالموضوع ديالكتيكيا، فالفكر
الذي يصدره العقل هو مادي يستمد ماديته في تخارجه مع موضوعه وليس من تفكير العقل
بموضوعه تجريدا ذاتيا ولا يمكننا أعتبار
العقل غير مادي بكل المعايير وما يصدر عن العقل من مقولات فكرية لغوية منطقية
يكتسب صفة المقولات الاجرائية الواقعية، ولو كان العقل غير مادي فهو يكون حتما
بالضرورة العلائقية مع موضوعه عاجزا عن إدراك كل ما هو مادي ويعجز عن إعطاء أفكاره
صفة المقولات الاجرائية عن مدركاته.. التي تكون إجراءات مادية تغيّر واقع الاشياء
في وجودها. وليست أفكارا منطقية نسقية تظهر متانة التجريد التفكيري وتماسكه فقط
بمعزل عن الجدل مع واقع مدركاته..
ميزة العقل الجوهرية التي نتجاهلها في بعض الأحيان هي أن
العقل لا يفكر تجريديا منطقيا بالأشياء من أجل التفكير بها فقط، فالوعي هو تفكير
قصدي بالشيء.. عليه يكون تفكير العقل من أجل أن يقود هذا التفكير التجريدي
العقلاني إلى إجراءات هي ردود أفعال يصدرها العقل عبر منظومة الجهاز العصبي كي
تأخذ حيّز التنفيذ في الواقع وموجوداته وتكويناته.. وهذا ما سبق لكانط أن أعتمده
بما أطلق عليه (مقولات ) العقل الاجرائية في معالجته مواضيع مدركاته.
إن التباس ديكارت قوله الاحساسات التي مصدرها الحواس
المادية هي لا مادية؟؟ هي مقولة صحيحة في حال اعتبارنا الإحساسات مادة خام لم تتم
معالجتها بالذهن الاستقبالي لها من الحواس ولم يصدر تجاهها ردود أفعال إجرائية من
الدماغ.... وخطأ رايل المبني على الفهم الخاطيء لعبارة ديكارت قوله أن الاحاسيس
الصادرة عن الجسد هي نفسية مزاجية لا تحتاج وسطا لا مادي في أدراكها؟؟ هنا يجب
الانتباه جيدا لما سبق لنا توضيحه في أسطر سابقة هو ان ديكارت يتكلم عن أحساسات
مصدرها الحواس، ورايل يتكلم عن أحاسيس مصدرها النفس وطباع الانسان المزاجية..
وتعقيبنا أزيد من السابق أن صفة اللامادية للحس لا تقاس
بمعيارية أن العقل لا يكون ماديا على الدوام كون التفكير المجرد بصور المدركات
ذهنيا هي ميزة العقل الاساسية في استقباله جميع حالات الاحساسات الادراكية
الموضوعية كمواد خام.. بل وأكثر أن ميزة العقل الاكثر أهمية أنه يتعامل مع حالات
الحس المزاجية مثل الألم والحزن وقضايا النفس والمزاج اللامادية بنفس معيارية أدراكه
الاحساسات المادية الواصلة اليه عن موضوعات العالم الخارجي عبر الحواس بوسيلة
التفكير العقلي المنطقي المادي.. ويبقى في المحصلة أن ما يصدر عن العقل إجرائيا
يكون ماديا سواء أكانت أحساسات الحواس أو كانت أحاسيس النفس والمزاج.. وما لا
يحتاج الى وسط لا مادي في الافصاح من أحاسيس النفس والمزاج يكون لا معنى ولا وجود
حقيقي له.. فالنفس جوهر مكمّل لجوهر الجسد تكتسب ماديتها من مادية الجسد قبل مادية
رقابة ووصاية العقل عليها لذا ما يصدر عنها من انفعالات تكون مادية ترتبط بإجراءات
إشباعية لها مادية أيضا...فمثلا أحساس الانسان بالجوع لا يتم إسكاته واشباعه بالكلام
الشفاهي ولا بالصوم، وقل مثل ذلك في حالات العطش والجنس والمرض والألم والحزن..
وليس من السهولة تمرير الافتراض الخاطيء بالقول أن
الافكار تنتج أفكارا تجريدية متتابعة متماسكة ومنظمة بلا وسط مادي الى ما لا نهاية
لها من التناسل الفكري المنطقي بمعزل عن مدركات العقل الاجرائية في التماس المباشر
بالواقع، ويبقى التساؤل المهم كيف يكون لأفكارنا جدوى من غير تعالقها الضروري
بالواقع الاجرائي لعملية تناسل الافكار في توليدها المستمر لأفكار التجريد الى ما
لا نهاية له من غير وصاية العقل المادية الاجرائية على تلك الأفكار كي تكون جزءا
من الواقع؟؟ تفكير العقل لا يشبه اللعب باللغة كما ذهب له فينجشتين، فاذا كان
بمقدور اللغة اللعب في مخاتلة وتضليل المعنى، فالعقل لا يخاتل في تضليل وهمي غير
موجود لحقيقة أن التفكير المنطقي من دون مقولات أجرائية مادية لا معنى ولا ضرورة
له.
علي محمد اليوسف /الموصل
الهوامش
1.
ريتشارد رورتي/الفلسفة ومرآة الطبيعة/ ت :حيدر حاج
اسماعيل/ مركز دراسات الوحدة العربية/ص 127
2.
المصدر السابق ص 126
3.
المصدر السابق ص 123
4.
المصدر السابق ص 127
5.
المصدر السابق ص 128
6.
المصدر السابق ص 123
7.
المصدر السابق ص 128
8.
المصدر السابق نفس الصفحة
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق