الوظيفة الديداكتيكية للحجاج في درس الفلسفة (1)

الوظيفة الديداكتيكية للحجاج في درس الفلسفة (1)
ذ عادل أومرجيج
تقديم :
     إذا كان منطق الخطاب الفلسفي يتوخى تنمية القدرات الفكرية وممارسة أنشطة ذهنية وتربية فعل التفلسف لأننا لا نتعلم الفلسفة بمقدار ما نتعلم التفلسف على حد تعبير" إيمانويل كانط"، ثم اذا كان هذا الخطاب ينمي هذه القدرات نظرا لطابعه الإشكالي ولكيفية بناء قضاياه المجردة ثم لكيفية بناء تصوراته عن طريق صياغتها البرهانية والحجاجية، وإذا كانت هذه العناصر هي السمات الأساسية للخطاب الفلسفي، فإن درس هذا الخطاب هو عبارة عن ممارسة تعليمية تعلمية تهدف إلى ترسيخ آليات التفكير النقدي: الفهم، التحليل، التركيب، النقد، السؤال، الحجاج...وهو اعتراف بوجود ضرورة منهجية وتقنية لهذا التعلم/ التفلسف، أي وجود استراتيجيات المقاربة و التعامل،وهو ما نصطلح عليه : " الضرورة البيداغوجية و الديداكتيكية" لمادة الفلسفة "[1] . لكن عادة ما تعترض هذا الدرس جملة من الصعوبات والإكراهات التي تبقى حاجزا دون العمل على ترسيخ مقومات الخطاب الفلسفي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتفريغ هذا الخطاب من جوهره ليصبح درسا تلقينيا يعتمد بيداغوجيا الإخبار ونقل المعارف من رأس مملوءة يفترض فيها الإلمام بتاريخ الفلسفة، ونقل هذه المعرفة إلى رأس فارغة (المتعلم) بشكل مباشر دون إقحامه في عملية تعلمه، حيث يكتفي هذا الأخير بالتخزين والحفظ عن طريق التكرار. فالمدرس هنا ينجز درسا يغيب فيه التشارك والتفاعل والمساهمة من طرف المتعلمين بشكل فعال. إن هذا النمط من التدريس لا يجعل من درس الفلسفة ينسجم ويتطابق مع روح الخطاب الفلسفي كخطاب تفكيري: نقدي، تساؤلي، حجاجي... من هنا فإن تدريس مادة الفلسفة بالشكل الذي يتطابق وروح الفلسفة يقتضي النظر إلى هذا الدرس باعتباره نشاطا تتداخل فيه مجموعة من العناصر البنيوية الكبرى تهدف إلى تحقيق ما يعرف في أدبيات ديداكتيك مادة الفلسفة بالأهداف النواتية باعتبارها مقومات ذاتية يتأسس عليها الدرس الفلسفي ويتعلق الأمر بالقدرة على الأشكلة، المفهمة، الحجاج.
 إن تدبير التعلمات في مادة الفلسفة باعتماد المقاربة الحجاجية مثلا كوظيفة ديداكتيكية أثناء هذا التدبير هي ما يسمح بتعليم وتعلم الفلسفة، إذ يظل منسجما ومطابقا لروح الفلسفة وتفكير الفلاسفة حيث تساهم هذه القدرة في تنمية ذهن المتعلمين والعمل على تنمية قدراتهم العقلية بالكيفية التي تجعلهم يفكرون بنفس الطريقة التي فكر بها الفلاسفة. فالمقاربة الحجاجية تجعل من المتعلم وثيق الصلة بالخطاب الفلسفي وآليات اشتغاله وكيفية تبريره لأفكاره وبنائها. كما تبرز أهمية المقاربة الحجاجية في درس الفلسفة من اعتماد هذا الأخير على النصوص الفلسفية كدعامة بيداغوجية وممارسة الكتابة الإنشائية ككفاية تواصلية ممتدة باعتبارهما عنصرين أساسيين في التعليم والتقويم وفق ما تنص عليه الوثائق الرسمية والمذكرات الوزارية، وهما عنصران يقتضيان ضرورة الاشتغال على الحجاج كلحظة أساسية ضمنها. فالنص الفلسفي هو نص يعتمد اللغة الطبيعية لأنه بواسطتها يضمن طابعه الشمولي كما توفر له إمكانات استدلالية وحجاجية " لأن حقيقة الاستدلال في الخطاب الطبيعي أن يكون حجاجيا لا برهانيا"[2]. يحمل دعوى يسعى إلى تبليغها مقابل دعاوى أخرى ويستهدف قارئا كونيا يريد إقناعه، كما أنه ليس نصا منطقيا وفقط بل أيضا بلاغيا، والكتابة الإنشائية الفلسفية ككفاية تواصلية التي يسعى درس الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي إلى إنمائها لا تستقيم إلا بإنماء هذه الكفاية المنهجية كأحد اللحظات الأساسية في الكتابة الإنشائية.
يكتسب الحديث عن الوظيفة الديداكتيكية للحجاج في درس الفلسفة أهميته كذلك من كون الخطاب الفلسفي في أحد أبعاده هو خطاب منفتح لا يدعي الوثوقية وامتلاك الحقيقة المطلقة " ، بل يسعى إلى بلوغها باستمرار وهذا ما يجعل منه خطابا متجددا يعتمد التساؤل والحوار والنقد والحجاج "إن الفلسفة وهي تساؤل مستمر وسيرورة حوار جدلي لايمكنها أن تكون غير تفكير برهاني وحجاجي"[3]،
الحجاج و البرهان :
عادة ما يتم الخلط بين مفهومي الحجاج والبرهان غير أن الأمر ليس كذلك ، فمجال البرهان هو مجال الاستدلالات الاستنباطية المنطقية الصورية، بينما مجال الحجاج هو مجال الخطاب الطبيعي التداولي ويمكننا اجمال الاختلاف بينهما في العناصر التالية :

الفرق الأول:
العبارات الواردة في الاستدلالات البرهانية توجد بشكل منفصل عن بعضها البعض وتؤلف بينها مجموعة من العلاقات الصورية ذات الطابع الصارم دون الأخذ بعين الاعتبار الالتحام الموجود داخل محتواها، بخلاف ذلك تختلف العلاقة الحجاجية التي تحصل في اللغة الطبيعية لأن "تعالق الملفوظات فيها يستجيب لاعتبارات داخلية محضة مرتبطة بطبيعة الملفوظات ومعناها ذاته، أي أن المحتوى يلعب دورا  حاسما في الانتقال بين الوحدات في العملية الحجاجية"[4]
 الفرق الثاني:
في الاستدلالات البرهانية يكفي وجود دليل واحد حتى نقوم بإثبات النتيجة أو نفيها، لكن يختلف الأمر في الاستدلالات الحجاجية حيث أن عدد الحجج المؤلفة للاستدلال لا تكون محدودة، قد تكون واحدة كما قد تكون متعددة، ويرجع هذا الأمر إلى طبيعة النشاط الحجاجي في ذاته، فالنتيجة لا تلزم الحجج كما نجد في البرهان بل تكون لها وظيفة الزيادة من احتمالية النتيجة وتقوية قبولها لدى المتلقي.
الفرق الثالث:
إن ما يميز الحجاج عن البرهان كذلك هو وجود هذا الأخير في استقلال تام عن الذات الإنسانية بخلاف ذلك فلا معنى للعلاقات الحجاجية إذا لم تقم باستحضار السياق التداولي الإنساني الخاص، معناه استحضار المخاطب أثناء الممارسة الحجاجية. وهكذا فإن جودة الحجج تكمن في الفاعلية الحجاجية بحيث لا تحكمها معايير موضوعية مطلقة كما هو الشأن في البرهان بل ترجع إلى خصوصية المخاطب بها"[5]
الفرق الرابع:
يتميز الحجاج عن البرهان بكونه يتأسس على ما يسمى بالمواضع topi "والمواضع هي مجموعة من القيم والمعايير والعلاقات المتميزة بطبيعتها الظنية واللايقينية، ولكنها مع ذلك تتميز بشهرة ومقبولة لدى عامة الناس نتيجة توافقها مع الحس المشترك"[6] وهذه المواضع تلعب داخل الحجاج الدور الذي تلعبه القوانين والقواعد الصورية التي يرتكز عليها الاستدلال البرهاني.
الفرق الخامس:
على خلاف الحجاج الذي يقبل الإضمار وعدم التصريح بكل مكوناته وهذا راجع لطابعه التداولي، إذ يضمر المخاطب أحد مكونات الاستدلال الحجاجي لافتراض أن المتلقي على معرفة بهذا المكون. كأن نقول مثلا زيد فان لأنه إنسان، حيث أضمرت المقدمة الكبرى كل إنسان فان.
ويكتسي هذا التمييز بين مفهوم الحجاج ومفهوم البرهان أهميته البيداغوجية بصفة عامة والديداكتيكية بصفة خاصة في تدبير الدرس الفلسفي في إتاحة الإمكانية أمام المتعلم لمعرفة أن النص الفلسفي هو نص حجاجي بامتياز نظرا لمجموعة من الاعتبارات أهمها: أن لغة هذا النص هي لغة طبيعية وليست صورية مما يجعل هذا الأخير يحتوي بدلا من النوع الواحد للحجاج أنواعا متعددة، وهذا التعدد لا مجال له داخل الاستدلال البرهاني الصارم.


[1]  - "الحجاج و الفلسفة" سعيد البطيوي . مجلة فلسفة.الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة.عدد مزدوج 9- 10 ص 112
[2] - طه عبد الرحمان. : "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" ،المركز الثقافي العربي،  الطبعة الرابعة ، 2010.ص
[3]- عبد المجيد الانتصار، الأسلوب البرهاني الحجاجي في تدريس الفلسفة من أجل ديداكتيك مطابق، السلسلة البيداغوجية2.ص25.
[4]-  "الحجاج والبرهان" رشيد الراضي، ضمن كتاب: الحجاج مفهومه ومجالاته دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة الجزء الأول الحجاج: حدود وتعريفات. إعداد وتقديم، د. حافظ إسماعيلي علوي،ص 188 
[5]- نفس المرجع السابق ص189.
[6] - نفس المرجع  ص190


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس