نص ديكارت حول
الشك
"من حيث أننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجالا، وأننا قد
أصبنا حينا وأخطأنا حينا آخرا في الحكم على الأشياء التي عرضت لحواسنا حينما لم
نكن قد استكملنا بعد استعمال عقولنا، فإن أحكاما كثيرة قد تعجلنا في إطلاقها
تمنعنا من الوصول إلى معرفة الحقيقة، وتتشبث بنفوسنا تشبثا يلوح لنا معه أن من
المحال أن نتخلص منها ما لم نشرع، مرة في الشك في جميع الأشياء التي قد نجد فيها أدنى
شبهة من قلة اليقين.
قد يكون
من النافع جدا أن نعد الأشياء التي قد نتخيل فيها أقل شك غير صحيحة، حتى إذا وجدنا
أن بعضها رغم هذا الاحتياط، يبدو لنا بجلاء أنه صحيح، اعتبرناه يقينيا جدا وعددناه
أسهل ما يمكن معرفته.
على أن بودي أن نلاحظ أني لا أقصد أن نستعمل الشك على هذا النحو إلا حين
نشرع في العكوف على تأمل الحقيقة، لأن من المحقق أننا فيما يختص بسلوك حياتنا
مضطرون في معظم الأحيان إلى متابعة آراء ليست إلا احتمالية، ذلك لأن فرص العمل في
شؤون حياتنا تكاد دائما أن تنقضي قبل أن يتيسر لنا أن نتخلص من جميع شكوكنا. فإذا
صادفنا منها آراء كثيرة كهذه في موضوع واحد، ولم نكن نستطيع ترجيح بعضها على البعض
الآخر، وكان العمل لا يحتمل أي تأخير، فإن العقل يقضي بأن نختار منها رأيا، وبعد
اختياره أن نثابر على اتباعه كما لو كنا قد حكمنا عليه بأنه يقيني جدا.
لكن لما كان غرضنا الآن مقصورا على الانصراف إلى البحث عن الحقيقة، فبوسعنا
أن نشك أولا بصدد الأشياء التي وقعت تحت حواسنا أو التي تخيلناها إطلاقا فنتساءل
هل منها ما هو موجود حقا في العالم. وذلك لأن التجربة قد دلتنا على أن حواسنا قد
خدعتنا في مواطن كثيرة، وأنه يكون من قلة التبصر أن نطمئن كل الاطمئنان إلى من
خدعونا ولو مرة واحدة، وكذلك لأننا نكاد نحلم دائما ونحن نائمون.
ويبدو لنا حينذاك أننا نحس
بشدة ونتخيل بوضوح عددا لا يحصى من الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج. ومتى صمم
الإنسان على أن يشك في كل شيء لم يعد يجد علامة للتمييز بين الخواطر التي ترد
علينا في حال النوم وتلك التي ترد علينا في حال اليقظة.
وبوسعنا
أن نشك أيضا في جميع الأشياء التي بدت لنا من قبل يقينية جدا. بل نشك في براهين
الرياضة وفي مبادئها وإن تكن في ذاتها جلية جلاء كافيا. لأن من الناس من أخطأوا
وهم يفكرون في مثل هذه الأمور، وعلى الخصوص لأننا علمنا أن الله الذي خلقنا يستطيع
أن يفعل ما يشاء، وما ندري بعد فربما كانت مشيئته أن يجعلنا بحيث نكون دائما
على ضلال، حتى في الأشياء التي نظن أننا على بينة منها، فإنه ما دام قد سمح بأن
نضل في بعض الأحيان، كما علمنا من ملاحظة الواقع، فلم لا يستطيع أن يسمح بأن نضل
على الدوام ؟ وإذا افترضنا أن إلها واسع القدرة ليس هو بارئ وجودنا، فبقدر ما
نفترض هذا الخالق أقل قدرة يكون لدينا أسباب أدعى إلى الاعتقاد بأننا لم نبلغ من
الكمال ما يحول دون تعرضنا للضلال باستمرار.
على فرض
أن الذي خلقنا واسع القدرة: وعلى فرض أنه يرضيه إضلالنا. فنحن لا نخلو من أن نجد
في أنفسنا حرية نستطيع بها إذا شئنا أن نمتنع عن التصديق بالأشياء التي لا نعرفها
حق المعرفة. وبهذا نمنع أنفسنا من الضلال.
ونحن حين
نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور
لنا أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه
عقولنا أن نتصور أن ما يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد
الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا
أفكر، وإذن فأنا موجود صحيحة. وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره
بترتيب.
ويبدو لي
أيضا أن هذا المسلك هو خير المسالك التي نستطيع أن نختارها لكي نعرف طبيعة النفس
وأنها جوهر متميز كل التميز عن البدن: لأننا حين نفحص عن ماهيتنا نحن الذين نفكر
الآن في أنه ليس خارج فكرنا شيء هو موجود حقا، نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون
موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده. وإذن
ففكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة على فكرتنا عن الجسم، وهذه الفكرة أكثر يقينا.
بالنظر إلى أننا لا نزال نشك في وجود أي جسم في حين أننا نعرف على وجه اليقين أننا
نفكر"
روني ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، دار
الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1974، ص: 53-57
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية