الإصلاح التربوي في تونس꞉ عوائق هيكلية أم مجرد ترميم

الإصلاح التربوي في تونس꞉ عوائق هيكلية أم مجرد ترميم
"التعليم زينة في الرخاء وملاذ في الشدة" أرسطو
الـدكتورة فـاطمة المـومني/تونس

مقدمة

لقد عمل المختصون في علوم التربية، بالبحث عن رهان الجودة في التربية، التي تقتضي تضافر جهود كل الأطراف من أجل تنمية المهارات ومعالجة الإشكاليات في المنظومة التربوية والتعليمية. إن هذه المشكلات تعنى بها هياكل العمل الاجتماعي الذي يستوجب تدخله قصد تحسين الظروف النفسية والبدنية والذهنية للتلميذ وإزاحة العقبات التي قد تحول دون السير الطبيعي للدراسة لدى بعض الفئات الهشة.كما أن الهدف الأساسي هو السعي إلى حماية التلاميذ من الانقطاع المدرسي وخلق الظروف الملائمة للدراسة داخل المؤسسة التربوية حتى تتمكن من تحقيق أهدافها التربوية و من الضروري ترغيب التلميذ والأسرة في التعليم من خلال عدة مداخل نفسية واجتماعية ودفعهما في اتجاه العودة إلى الدراسة.
لكن العزم النظري الأهم الذي يحرك سؤالنا الآن هو أن نقف على حروف الإشكال التالي׃ ما حيلتنا اليوم أن نسأل عن منظومة تربوية بتونس، منظومة تنطلق من مداخل جيدة وتنتهي إلى مخرجات جيدة، تكون مرجعيتنا في صياغة أهداف النظام التربوي البديل هو العقل من خلال إعداده لكسب العلم كما "تعد الأرض للنبات والزرع"؟ هو سؤال عن المعنى، الأزمة و الرهان.
المعــــــــــــــــــــــــــــنى
السؤال الذي يطرح علينا أو السؤال الذي يخطر بأذهاننا الآن هو ما حاجتنا اليوم إلى التربية؟و ما هي ماهية التربية؟ الحاجة إلى التربية هي حاجة متأصلة في الفكر الإنساني وليست أمرا عرضيا. إن كلمة "تربية"، من الكلمات الشائعة التداول بين الناس في الحياة العامة، ويستعملونها كثيرا. كقولهم " فلان قليل التربية أو " فلان حسن الأخلاق والتربية".ان هذا الاستعمال الشائع لكلمة التربية " لا يعني أن كل من يستعملها يدرك مدلولها إدراكا جيدا، فقد يكون  فهمهم لمعنى التربية فهما سطحيا يقتصر غالبا على الجانب الأخلاقي فقط. لذلك فإن التربية بالمعنى العلمي مدلولها أوسع. من جهة لقد عرفها علماء التربية الحديثة بأنها " عملية تكيف ما بين الفرد وبيئته " فالوظيفة الأساسية للتربية حسب هذا التعريف هي أن تجعل الإنسان قادرا على ملائمة حاجاته مع الظروف المحيطة به، وبواسطة التربية يتهيأ الفرد للتكيف مع الشروط والظروف المختلفة المحيطة به فيصبح قادرا على الحياة مع الآخرين.
وهي من جهة أخرى،" التربية هي عملية نمو الفرد"، وهو يعني نمو الفرد, إن الطفل الذي يتربى ينمو نموا تدريجيا في جسمه وعقله وأخلاقه. بينما لا يتم له ذلك النمو على الوجه المطلوب إذا حرم من التربية, لأنه كائن حي يملك استعدادات وقدرات فطرية تكفل له النمو السليم إذا اعتني بها. وتوفر له الجو الاجتماعي المناسب, واهتم المربي برعايتها وتوجيهها عند ذلك سوف تنفتح ويتكامل نموها. أن التربية بناءا على هذا التعريف هي كل نشاط يؤثر في نمو قوى الطفل وتوجيهها ويشمل ذلك .
-1 الأسرة : التي تعتبر المدرسة الأولى للطفل.
-2 المدرسة: حيث يتلقى الطفل التربية والتعليم المقصودين
-3 المجتمع: الكبير بكل مؤسساته الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها...
-4 الشارع.
-5 التقاليد- القوانين- النظم وغيرها...
التربية هي ذلك العمل المتناسق الذي يهدف إلى نقل المعرفة وإلى تنمية القدرات و تدريب و تحسين الأداء الإنساني في كافة المجالات و خلال حياة الإنسان كلها.

الرهــــــــــــــــــــــــــــــــــان
إن ابرز ما يحرك مساءلتنا لهذا الغرض هو في الحقيقة أن نتعقب الفحص عن فكر يسعى للانعتاق من واقعه المأزوم استنادا على مفهوم "العقل" من أجل تبرير مسلمات واقع وقع التسليم به مسبقا׃ فخطاب العقل هو خطاب كوني، حقيقة مطلقة، وهو ليس خاص بدين أو مجموعة أو بأي علم هو عام للإنسانية من أجل تأسيس حراك علمي متجدد.
لقد أسست وزارة التربية بتونس مخطط استراتيجي تربوي يتضمن مجموعة إجراءات إصلاحية تمخضت عن "الحوار الوطني لإصلاح المنظومة التربوية". من أجل تطبيق مبدأ الديمقراطية التشاركية في عملية صياغة المشروع الوطني لإصلاح المنظومة التربوية.
 عاشت تونس في سنة 2015 حوار “وطني” حول إصلاح المنظومة التربوية . ولقد استقطب هذا الحوار قطاعات واسعة من المجتمع المدني التونسي و أثار اهتمام الرأي العام الوطني مما يؤكد الأهمية القصوى التي يوليها الشعب التونسي لقطاع التربية و التعليم.كان قطاع التربية والتعليم من أبرز المجلات المنتظر معالجتها و اصلاحها ضمن أولويات الثورة واستحقاقاتها  و متطلبات مسار الانتقال الديمقراطي. اليوم تجسم الارادة السياسية إرادة المجتمع حقيقية ناجعة تجعل جميع الأطراف شركاء فعليين في نحت كيان الأجيال القادمة و هو ما نص عليه الدستور من "أجل إسهام حقيقي وفعال في إعادة بناء النظام التربوي التونسي الذي هو خط دفاع استراتيجي عن استقلال البلاد ونموها وتحقيق تطلعات أبنائها في التكوين الممكن لهم من المواطنة الفاعلة والشغل الحافظ لكرامتهم والمحقق لطموحاتهم في التفوق والريادة".بأكمله بإعلانها عن إطلاق الحوار الوطني لإصلاح  المنظومة التربوية باعتباره استراتيجية تضمن مشاركة. وهو كفيل بإعداد الطفل للقيام بدوره كمواطن وكإنسان وتكوين الإطارات الصالحة الكفيلة بنموه. لكن السؤال الذي يطرح الآن هو عن سؤال من هو تلميذ المدرسة التونسية؟ وما هي مقومات الإنسان الجديد الذي نريد من حيث القيم والمواقف والسلوكيات ؟ وبالتالي ما هي غايات النظام التربوي ومقاصده وأهدافه وأية مكانة للغة الأم؟ وما ينعكس عن ذلك من برامج ومناهج وتكوين وتقييم.
هناك جملة من الحلول والمقترحات الإصلاحية التي لا تجد معارضة مجتمعية باعتبارها حلولا بيداغوجية ك꞉
- إرساء نظام التقييم التكويني منها
 مراجعة التوجيه المدرسي والشعب -
 تطوير منظومة التكوين المستمر-
 مراجعة البرامج التعليمية والمناهج التربوية والكتب المدرسية-
تطوير الحياة المدرسية وتعزيز التربية على المواطنة والمدنية وحقوق الإنسان في الوسط المدرسي-
 العناية بالبنى التحتية للمدارس وتوفير التجهيزات البيداغوجية اللازمة-
 توسيع استعمال التكنولوجيات الحديثة للتواصل والمعلومات-
إدخال مواصفات الاحتراف على المنظومة التربوية وإرساء منظومة الجودة-
بيد أن ثمة مجموعة من العوائق التي تحول دون الاهتمام بهذه المسألة، أو الأخذ بها في التخطيط التنموي تدبيرا واستشرافا وتطبيقا وتقويما.


الأزمـة

التربية تسعى إلى إقامة نظريات حول طبيعة الإنسان والمجتمع والعالم, و ذلك عن طريق تنظيم المعلومات المتصارعة المتعلقة بالبحث التربوي و العلوم الإنسانية و العمل على تفسيرها. و ذلك إما باستنتاج تلك النظريات من نظريات فلسفية عامة و تطبيقها على التربية. أو بالانطلاق من مشكلات تربوية بالذات ، ثم وضعها في إطار فلسفي قادر على حلها. إن التربية تثير عدة مشكلات لا تستطيع هي أو العلم القيام بحلها كل على حده ، ذلك لأنها مجرد أمثلة عن المسائل الخاصة بالفلسفة ذاتها و التي تتكرر و تتواتر، وتقوم بتحديد الغايات التي يجب على التربية أن تستهدفها و الوسائل العامة التي ينبغي أن تستخدمها لبلوغ تلك الأهداف. ثم تحديد و تفسير الأهداف و الوسائل القائمة المتعلقة بنظامنا التعليمي و تقترح أهدافا و وسائل أكثر صلاحا لكي تؤخذ في الاعتبار.و لتحقيق هذه الغاية فإن الوقائع حتى و لو كانت محددة, فإنها لا يمكن أن تكون كافية, فالوقائع لا تعدو أن تشير على نحو دقيق إلى حد ما إلى النتائج المترتبة على إنتهاج سياسة بالذات ، و هي في حد ذاتها لا تقول ما إذا كانت هذه السياسات مرغوبة أم لا. و حتى إذا كانت مرغوبة, فإذا لا تقول ما إذا كانت تبرر إهمال السياسات الأخرى. و لا يمكن وضع أهداف التربية و لا أي من وسائلها إِلا من خلال معايير صحيحة. يقوم بتمحيصها ووضعها فيلسوف التربية. فالتربية كفرع من فروع المعرفة لا يمكن أن تقوم وحدها, و إنما على توجيه فلسفي لها. مثلا: لا نستطيع مناقشة مشكلة, ما إذا كان على التربية أن تمارس الديمقراطية أم لا في إدارة المدرسة وفي حكم الطلبة بغير أن نوجه أنظارنا إلى الفلسفة الاجتماعية المحيطة بهذه المدرسة و من ثمة تساعدنا على التفكير في المفاهيم و المشكلات التربوية بصورة واضحة و دقيقة و عميقة و منتظمة
وهذا بدوره يؤدي إلى وعي أكثر و إدراك لأبعاد الموضوعات الهامة . و تساعدنا هذه الفلسفة أيضا على تقويم الحجج و الأدلة التي تقوم عليها الآراء التربوية، مما يساعد على تحرر عقلي من التصلُّب في الرأي و سلطان الأفكار التقليدية القديمة ، يترتب على كل هذا تحسين السياسات مما ينعكس ايجابيا على القرارات التربوية .
كما تساعدنا على تصور التفاعل بين الأهداف و الأغراض التربوية و المواقف التربوية المحددة و الربط بينها لتوجيه قراراتنا مما يسمح برؤية أوضح للأهداف الجديدة, بالإضافة إلى أنها تدفعنا للتحرك من أجل تحقيق هذه الأهداف.
ومما سبق يتضح لنا أن فلسفة التربية هي فلسفة موجهة للعمل التربوي و همزة وصل بين المستوى النظري للتحليل الفلسفي و المستوى العملي للقرارات و الاختيارات التربوية. و يمكن لفلسفة التربية أن توجه النظرية و التطبيق في مجال التربية بطرق ثلاث :
-1 تضع نتائج و فروع المعرفة ذات الصلة الوثيقة بالتربية، مما في ذلك مكتشفات التربية ذاتها، في نطاق نظرة شاملة للإنسان و نوع التربية الذي يليق به.
-2 توصي بالأهداف و الوسائل العامة للعملية التربوية بعد فحصها و تمحيصها.
-3 توضح و تنسق بين المفاهيم التربوية الأساسية التي تجعل للعملية التربوية معنى و مغزى واضحا.
وتنقسم هذه المشاكل المدرسية والتربوية إلى مسائل يمكن أن نطلق عليها صفة “الفنية” والتي يمكن معالجتها بحلول وإجراءات “فنية” أيضا أي معرفية وبيداغوجية وإجرائية وأخرى جوهرية وهيكلية لا يمكن معالجتها إلا بإجراءات جذرية ومن أهم هذه المشاكل والصعوبات والسلبيات الفنية نذكر منها꞉
 طغيان الجانب التراكمي والبعد النظري على التعلمات وكثرة مواد التعليم وفقدانها للترابط والاندماج بينها
مشاكل تقييم عمل التلميذ و غلبة التلقين و الإملاء و ضعف التواصل و كثافة الزمن المدرسي
مشاكل الشعب والتوجيه
المركزية المفرطة وصرامة البرامج وعدم قابليتها للاجتهاد
ضعف مشاركة مختلف الأطراف في الحياة المدرسية و استقالة الأولياء وبروز ظواهر العنف والتسيب والغش داخل الفضاء التربوي ومن حوله
تدهور البنى المادية للمؤسسات التربوية والنقص الفادح في التجهيزات والوسائل البيداغوجية ومحدودية الموارد البشرية باستثناء إطار التدريس
ضعف مردود المؤسسات التربوية من حيث ارتفاع نسب الانقطاع والرسوب
 مشاكل الحوكمة والقيادة الرشيدة والتأطير التربوي والبيداغوجي والمرافقة والتكوين المستمر والانتدابات  
وبالطبع فإن هناك جملة من الحلول والمقترحات الإصلاحية التي لا تجد معارضة مجتمعية باعتبارها حلولا فنية꞉
 إرساء نظام التقييم التكويني
 مراجعة التوجيه المدرسي والشعب
 مراجعة توقيت المواد والزمن المدرسي
 تطوير منظومة التكوين المستمر
 مراجعة البرامج التعليمية والمناهج التربوية والكتب المدرسية
تطوير الحياة المدرسية وتعزيز التربية على المواطنة والمدنية وحقوق الإنسان في الوسط المدرسي
 العناية بالبنى التحتية للمدارس وتوفير التجهيزات البيداغوجية اللازمة
توسيع استعمال التكنولوجيات الحديثة للتواصل والمعلومات
إدخال مواصفات الاحتراف على المنظومة التربوية وإرساء منظومة الجودة
  هو ما يؤدي إلى مشاكل الحوكمة والقيادة الرشيدة والتأطير التربوي والبيداغوجي. وفي هذا الإطار نجد دراسة للأستاذ سفيان سعد الله، وهي دراسة نقدية للواقع التربوي في تونس إن المدرسة لا يقتصر على التعليم وحفظ المعارف وإنما وظيفتها نحت شخصية التلميذ وإدماجه في الوسط الاجتماعي والثقافي.
لكن المدرسة اليوم لم تعد تضطلع بتربية الناشئة على المحافظة على قيم المجتمع ولا تسهم في تكوين إنسان قادر على التواصل مع تاريخه والمحافظة على قيمه.بل أن بعض المواد المقررة ترسخ في الناشئة  قيما مشوهة من قبيل أن التاريخ العربي الإسلامي إنما هو تاريخ دم، و شعر و تخلف، و في المقابل تظهر هذه المواد أن التاريخ الغربي رمز للتقدم. و الحال أن تاريخ البشرية هو تاريخ ثورات و الحداثة الغربية هي جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية.  ليست الحداثة حكرا على المجتمع الغربي، إنها نتاج المجتمع الإنساني في مختلف مراحله. فلكل مجتمع نظمه التربوية و أساليبه في التنشئة الاجتماعية،  و المحافظة على القيم  الاجتماعية التربوية لا تتعارض بالضرورة مع التقدم المعرفي و التقني الذي عرفته المجتمعات الغربية.
خـاتمة
إن الإصلاح التربوي يسعى إلى فهم التربية في كليتها الإجمالية، و تفسيرها بواسطة مفهوم عامة تتولى قيادة اختيارنا للغايات و السياسات التربوية...فهي تتضمن إذن تطبيق منظومة على ميدان التربية. إنها عبارة عن الإطار العام من الآراء و المعتقدات و التي توجه عملية تربية هذا الإنسان و توحدها و تحدد أهدافها و نشاطاتها. المنظومة التربوية تساعدنا على تطوير نظرتنا للعملية التربوية و على توجيه مجهوداتنا و تنسيقها وعلى تحسين طرائقنا و أساليبنا في التدريس و التقويم و التوجيه و الإدارة ، و على رفع مستوى معالجتنا للمشكلات التربوية و مستوى تصرفاتنا و أحكامنا و قراراتنا، وهذا يلزمنا بضرورة العودة إلى المعيار العملي للتأكد من نجاح أو فشل منظومة تربوية ما.
إن تحرير الإنسان من مكبلاته وتوسيع قدرته ومجال فعله. لكن توسيع المجال والقدرة والفعل تهدده دائما منزلقات العنف و اللامعنى شأن ما تهدد الحرية إمساخات الأنانية.  هكذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا المبحث، بما هو مبحث يساءل الكيان، اللسان والعقل بل هو انصهار كلي بما في واقعنا من تردي للوضع التربوي ببلادنا. ألا نحتاج لمنظومة خالية من كل المواقف والايديولوجيات السياسية من أجل الانعتاق من سجن هذا الركود؟ ألسنا بحاجة إلى مراجعة نقدية لإعادة البناء؟



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس