نظريات نشوء الحضارة

بقلم: أ.د.ابراهيم طلبه سلكها – رئيس قسم الفلسفة
          كلية الآداب – جامة طنطا- مصر

توجد نظريات كثيرة اهتمت بدراسة عوامل قيام الحضارات وانهيارها منها نظرية البيئة ونظرية العرق أو الجنس ونظرية التحدى والاستجابة .. الخ :

أولا : نظرية البيئة


     تؤثر الطبيعة في الانسان،  وتعدل من شكل المجتمعات البشرية، اذ هناك باستمرار عملية تفاعل وتجاوب بين الإنسان وبيئته لذا فان التنظير الجغرافي الأمثل لهذه العلاقة هو العلاقات المتبادلة بين المجتمع والبيئة ويمثل استقرار الانسان وتوزيعه ،عبر المراحل التاريخية ،من خلال العلاقة الجدلية بين الانسان وبيئته، صورةً للتوافق او الصراع، والتي شكلت انماطا متباينة من الحضارات، تبعا للبيئات المكانية والتطور المعرفي وتراكماته.(1)

تؤكد نظرية البيئة على دور عامل البيئة فى بناء الحضارة وتطورها وترى أن هذا الدور يتف اوت بتفاوت خصائص البيئة وإمكاناتها . فالفرق واضح بين ما إذا كانت البيئة استوائية أو معتدلة أو قطبية لما بين هذه المناطق من فروق واختلافات واضحة فى درجة الحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف والأمطار والرياح، إضافة إلى طبيعة شبكة المواصلات البرية والنهرية والبحرية الموجودة فى المنطقة . فضلا عن الثروات النباتية والحيوانية والمعدنية التى قد تكون موجودة فيها . وهذه بمجموعها تشير فى حال الاعتدال والانحراف والاتساع والضيق والكثرة والقلة إلى طبيعة الدور الذى يمكن أن تلعبه المنطقة كخاصية حضارية .(2)
ومن هنا نلاحظ أن الأقاليم المعتدلة ، لطبيعة خصائصها وإمكاناتها وتفردها بهذه الخصائص والإمكانات دون أقاليم الكرة الأرضية شهدت كثافة سكانية عالية وحفلت بالفعاليات البشرية التى أبدعت حضارات العالم المعروفة ولذلك نجد أن مفكرى اليونان منذ القرن الخامس قبل الميلاد أكدوا على دور عامل البيئة فى بناء الحضارة ، فأرجعوا تنوع الثقافات إلى عامل بيئى ، وقالوا بأثر الجو والماء والهواء على الإنسان فى خلقه وتفكيره ، وميزوا – على سبيل المثال – بين أهل الجبال الذين وصفوهم بالبنية الضخمة والشجاعة والقدرة على الاحتمال ونقاء اللون ، وبين أهل الأراضى المنخفضة الحارة الرطبة الذين وصفوهم بالأجسام المترهلة والألوان القاتمة وسرعة الغضب وضعف الاحتمال .(3)
ويذكر ابن خلدون أثر البيئة على جلد الإنسان سوادا ، وبياضا ، على العين زرقة وغير زرقة ، وعلى الشعر وعلى البدن فى لونه صفاءاً وإنكسافاً وغلطة ولطفة ورقة وعلى الشكل نقاءا وبشاعة وعلى الخلق حسنا وقبحا ، وعلى التدين قوة وضعفا ، وعلى العقل فطنة وذكاءا وبلادة وغباءا . وميز بين أثر الأقاليم المعتدلة فى ذلك وأثر المنحرف منها ، وقال إن اعتدال مناخ الأقاليم يجعل حياة الناس فيها معتدلة ، فأهلها أعدل أجساما وأخلاقا على عكس أهل الأقاليم المنحرفة ، فالدين عندهم مجهول والعلم مفقود وأحوالهم قريبة من أحوال البهائم بأمزجتهم وأخلاقهم .(4)

كما يؤكد ابن خلدون على وجود رابطة قوية بين أخلاق الناس والشعوب وبيئتهم الطبيعية . ويذهب إلى أن أخلاق الناس فى المناطق المعتدلة تتسم بالاعتدال ، فالبيئة تخلق خلقا وملكة وعادة تنزل فى الإنسان منزلة الطبيعة والجبلة ، ومعنى ذلك أن العمران يؤثر فى أبدان البشر وأخلاقهم ، كما تؤثر البداوة فيهم . وأهل الجبال فى نظرة أحسن حالا فى أجسامهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين فى العيش ، فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن ، وأخلاقهم أبعد عن الانحراف ، وأذهانهم أثقب فى المعارف والإدراكات وهذا أمر تشهد له التجربة فى كل جيل منهم.(5)
ويبدو أن ابن خلدون فى هذه الآراء قد تأثر بجالينوس فى تفسيره لفسيولوجيا الجسم الإنسانى لأنه يقول : "إن كثرة الأغذية ورطوبتها تولد فى الجسم فضلات رديئة ، وكثرة الأخلاق الفاسدة العفنة ، مما يؤدى إلى إنكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم ، ويؤدى ذلك إلى البلادة والانحراف عن الاعتدال بالجملة . أما حياة البادية فهى تعلم الناس الصبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال . وذلك لان الإقلال من الطعام والجوع يؤثر فى نقاء الأجسام من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل ".(6)
وهكذا نلاحظ أن نظرية البيئة تتخذ من الأحوال المناخية والجغرافية المختلفة سببا لتفسير اختلافات البشر القائمة فى سلوكهم. وبالتالى تؤكد ضرورة اعتبار البيئة عاملا حاسما يبعث الحضارة إلى الوجود .. ولكن ترى إلى أى حد يمكن قبول هذه النظرية ؟
موقفنا من نظرية البيئة :
لا ريب فى أن القول بارتباط الحضارة بالبيئة ارتباط العلة بالمعلول ، والسبب بالمسبب مجانب للواقع ، إذ يقتضى هذا القول أن كل بيئتين متشابهتين لابد من أن تقوم عليهما حضارتان متشابهتان وهو ما لا يؤيده دليل تاريخى . فضلا عن أن دور البيئة وأثرها على الإنسان كان أكثر وضوحا فى الماضى منه فى الحاضر ، فاليوم تجد الناس يعيشون عصرا تتجلى فيه زيادة قوة الإنسان وقدرته فى تسخير البيئة لأغراضه والانتفاع بها لصالحه . وهذا يدعونا إلى عدم التعلق بنظرية البيئة واعتبارها المسئولة عن نشؤ الحضارة ، هذا فضلا عن دور النظم الفعالة فى حياة المجتمع وتأثيرها فيه .(7)
ويمكن أن نشير هنا إلى موقف أرنولد توينبى الذى يدلل على تداعى نظرية البيئة فهو يرى أنه قد تحدث فى بعض الظروف البيئية المتشابهة أن تقوم مجتمعات حضارية معينة فمثلا قد أتاحت الظروف الجغرافية الملائمة فى وادى النيل وحوض الرافدين قيام مجتمعات وحضارات متشابهة كحضارة النيل والرافدين ، ولكن فى وديان أخرى قد لا تتاح فرصة قيام حضارات متشابهة كنهر الكلورادو ، بل أكثر من ذلك قد ظهرت الحضارة الأنديانية على مرتفعات وهضاب ومع ذلك لا تبرز إلى الوجود دائما مجتمعات مشابهة للحضارة الأنديانية فمرتفعات أفريقيا لم تخلق حضارات . وهناك حضارات أخرى قد نشأت مثلا وسط الغابات والأحراش فى أفريقيا ، ولكن مرة أخرى نؤكد أن مثل هذه الحضارات لم تبرز أيضا فى وسط أحراش وغابات الأمازون .(8)
لا ترتبط الحضارة إذن فى نشأتها بعوامل البيئة وحدها ، فليس صحيحا أن البيئة السهلة هى التى تنبثق منها الحضارة . فإذا كان نهر النيل علة الحضارة المصرية القديمة فإنه كان يجب أن تنشأ الحضارات فى بيئات من الطراز النيلى ، وإذا كانت حضارة ما بين النهرين تؤكد ذلك فإن عدم قيام حضارة فى وادى الأردن يدحضها ، وإذا كانت بيئة الأمازون قد أنتجت الحضارة الأنديانية فإنه فى نفس خط العرض ونفس الظروف البيئية لم تقم حضارة . والحضارة الصينية سليلة النهر الأصفر ، ولكن حوض الدانوب مع التشابه فى المناخ والتربة قد أخفق فى إنجاب الحضارة .(9)
خلاصة القول : إن الحضارات لا تقوم نتيجة العوامل الجغرافية فقط بل إن عامل البيئة لا يعد عاملا إيجابيا فى نشوء الحضارة وبعثها إلى الوجود .

ثانيا : نظرية الجنس أو العرق

يذهب القائلون بنظرية الجنس إلى أن بعض أجناس البشر تصعد ، أى تتقدم وتزداد قوة لأن جنسها – أو نفرا من قادته – مهيأ للتقدم ، بينما لا تتمتع أجناس أخرى بمواهب كافية للتقدم فيبطئ تقدمها
وتميل إلى الركود فى حالة من البداوة أو البقاء على مستوى حضارى معين لا تتخطاه . وأن الجماعات البشرية المهيأة بطبعها للتقدم تتميز غالبية أفرادها بخصائص بدنية أو خلقية ، أو بدنية وخلقية معا يتوارثها أفرادها بحيث تصبح هذه الخصائص مميزة لها عن غيرها. ويقول علماء الأجناس إن هذه توجد مركبة فى طبع الجنس وهيئته بالخلقة . وهذه الخصائص تمكنه من صنع الحضارة أو - إذا استعملنا تشبيه التقدم الحضارى بعملية الصعود على سفح الجبل - أن هذه الأجناس قادرة على التحرك والتسلق إلى أعلى مرحلة بعد مرحلة . وخلاصة رأيهم أن هناك أجناسا قادرة على صنع الحضارة وأخرى غير قادرة أو ذات قدرة قليلة فى هذا الميدان .(10)
والقول بامتياز الأجناس بعضها على بعض شائع عند معظم الأمم فى العصور القديمة والوسطى ، ولا يزال قائما عند أهل الغرب – وخاصة غرب أوربا والولايات المتحدة الأمريكية إلى اليوم – فاليونان كانوا يرون أنفسهم أفضل الأمم وأذكاها وأشرفها وبقية الخلق همج ، والرومان جعلوا الرومانى فوق غيره بحكم القانون ، حتى صاروا إذا أرادوا أن يعرفوا قدر إنسان أو جنس أصدرت لهم الدولة قرارا بمنحه الجنسية الرومانية . أما أهل الصين فكانوا يؤمنون بأنهم أفضل الخلق وأنه لا وجود لأى حضارة أو فضيلة خارج جنسهم . بل كانوا يرون أنهم لا يحتاجون إلى غيرهم فى شئ وليؤكد ملوكهم هذا المعنى أقاموا سور الصين العظيم حتى لا تتدنس أرضهم بأقدام أقوام آخرين . وأما الهنود فشأنهم فى تفضيل طبقة البراهمة على غيرها معروف .(11)
إن جذور النظرية العرقية الحديثة ومنشأها يعود فى الحقيقة إلى مرحلة الصراع المستميت بين النبالة المسيطرة والبرجوازية الناهضة التى تهدد سلطانها . فقد كانت هى حجة هذه النبالة ومبررها " القانونى " فى رفض المساواة بين البشر والأجناس ، وفى مواجهة شعارات الحرية والإخاء والمساواة التى كانت تغزو العقول فى كل مكان . فالفرق بين البشر وعدم المساواة فى عرف هؤلاء هو النظام الطبيعى وإلغاؤه يعنى إلغاء القيم الإنسانية السامية. ومنذ بداية القرن الثامن عشر أى عصر التنوير كتب كونت بولينفلييه (1727) كتابا يردد فيه زعم النبالة الفرنسية بأنها وريث الجنس السائد من الفرانك بينما ينحدر بقية السكان من المقهورين والمستعبدين فثمة عرقان يختلفان كيفا ولا يمكن إلغاء سيادة الفرانك دون إلغاء الحضارة ذاتها .(12)
وفى مستهل القرن التاسع عشر الميلادى وفى غمار المجادلات التى انبعثت عن الثورة الفرنسية ودارت حول التفرقة بين سكان فرنسا الأصليين وبين الفرنجة باعتبارهم برابرة مغتصبين نادى ألكونت دى جوبينو بنظرية الجنس مدعيا انتماء الفريقين إلى جنس واحد هو الجنس النوردى . ونقطة الانطلاق عند جوبينو هى الصراع ضد خطر الديمقراطية ، فالمساواة بين البشر فى نظره مفهوم " غير علمى ومناهض للطبيعة " وكل شرور البشر التى تولدت خلال التاريخ نشأت عن هذا المفهوم ، مفهوم المساواة. وبهذا يحاول جوبينو أن يعيد إحياء المقولة الإقطاعية القديمة عن عدم المساواة باعتبارها الحالة الطبيعية بين البشر .(13)
كان هم جوبينو هو مصير الحضارة وهو يتساءل كيف تنتهى الحضارات وتموت ، وقد وجد الإجابة فى نظرية الأجناس ، فالحضارات تضمحل بسبب انحلال صفاتها الموروثة وهذا التحليل ينشأ عن اختلاط الأجناس ، ومع ذلك فالحضارة لا تتقدم إلا بالغلبة والغزو ، غزو أمة لأخرى ، غلبة جنس على آخر . ولذلك فاختلاط الأجناس هو العامل المنشئ للحضارة وهو علة موتها وانتهائها ، فهو أفضل الأشياء وأسوأها فى الآن نفسه . فنظرية جوبينو عن العرق تحمل تناقضا أساسيا وهو يعى هذا التناقض فالنوع الإنسانى يخضع لقانون مزدوج من التجاذب والتنافر ، وعامل التنافر والرفض الذى يبدو أساس النظرية العرقية هو على العكس فى نظر جوبينو آخر شئ . فالبدائيون والمبتربرون الذين يرفضون الغير لن تتاح لهم فرصة الحضارة أبدا . وهناك قسم من البشرية مصاب بالعجز المطلق والقصور عن تقبل الحضارة ، لأنه لا يستطيع أن يتغلب على نزعة الرفض الطبيعية عند هؤلاء المتخلفين . وقانون الرفض أو النفور يمكن التغلب عليه بفضل القانون الآخر وهو قانون التجاذب ، وهو وقف على الشعوب القوية شعوب الصفوة التى تملك صفة مميزة ، هى القدرة على الاختلاط بدم أكثر تخلفا . وهذه العملية لا تتوقف وتنتهى بالضرورة بالتحلل والاضمحلال .(14)
وجوبينو يأخذ بالتقسيم الشائع للبشر إلى ثلاثة أجناس : السود والصفر والبيض ، والسود أحطها ولا يمكن أن يرتفعوا أبدا عن قاع الدرج والخروج من دائرة الحطة العقلية . أما الصفر فيحرهم نزوع إلى حب المفيد ، واحترام القواعد ، وبعبارة أخرى العقل العملى . أما سمات الجنس الأبيض فأقل تحديدا ، وذلك بلا جدال يرجع إلى أن " الحسن والجيد يصعب إجماله فى كلمات " ومحرك هذا الجنس للعمل هو نزوع العزة والشرف وهو يقدم الدليل على ذكائه اليقظ ، وهو يسود الأجناس الأخرى ، لا بحكم السيطرة بل بسبب استعداده الحضارى المتفوق ، وقدرته على تمدين الآخرين ، الذين يفتقدون هذه الصفة .(15)
والأوربيون من وجهة نظر جوبينو هم من البيض ، فمن حيث البنية الجسدية هم أجمل الأجناس ، هيئتهم تبعث البهجة فى الأرض ، أجسادهم ألهمت المثالين صانعى تماثيل أبولو وجوبيتر ، وروحهم من أسمى الأرواح " تطلق حيوية وطاقة بلا نهاية " وهذه العائلة الإنسانية الفريدة هى أكثر نبلا . وصادفت آراء جوبينو حدوث كشف لغوى مفاده أن جميع اللغات الأوربية إضافة إلى اللغات اليونانية واللاتينية ولغات فارس وشمال الهند تنتسب بعضها إلى بعض وهى أعضاء فى عائلة لغوية واحدة واسعة .(16)
واكتشف جوبينو من هذا الكشف اللغوى أن المتكلمين بهذه اللغات ينتسب بعضهم إلى بعض أسوة بالنسب القائم بين اللغات التى يتكلمون بها ، وأنهم ينحدرون من جنس واحد أصلى آرى أو هندى أوربى . وأن هذا الجنس هو الذى أنتج عبقرية زرادشت الدينية وعبقرية اليونان الفنية وعبقرية الرومان السياسية ، ويرجع الفضل إليه فى جميع ما حققته الحضارة البشرية من أعمال وتقدم عبر تاريخ البشرية الطويل .(17)
كما يؤكد جوبينو أن اختلاط الأجناس هو قدرها جميعا فلا يوجد شعب لا يحمل فى عروقه قليلا من كل عنصر من هذه العناصر . والحضارة تنتج عن تدفق الدم الأبيض ولكن هذا الاختلاط بعينه هو علتها إلى التحلل والاضمحلال ، فلا التعصب ولا الرفاهية ، ولا سوء الأخلاق ولا حتى عدم التدين يؤدى بالضرورة إلى سقوط المجتمعات . فالأجناس المتخلفة والمنحطة غير مستعدة بطبيعتها لتقبل الحضارة ، ولا تصلح إلا للعبودية والرق ، وللعمل كآلات حية ، وحيوانات مستأنسة لدى الأجناس الراقية .(18)
كما صاغ تشامبرلين كاتب ألمانى من أصل إنجليزى (1855-1972) – نظريته العرقية فى كتابه " أسس القرن العشرين " عام 1899 ، وقد استبعد فيها التجاء جوبينو ونزوعه إلى الماضى واستبدل بها توجهها نحو المستقبل ، ووضع كل ثقته فيه ورأى أن كل شئ يمكن إنقاذه . وكان محور فكره هو ضرورة المحافظة على نقاوة الدم الجرمانى بالتصدى والصراع ضد العناصر الأجنبية الغربية على هذا الجنس .(19)
وقد استبعد تشامبرلين فى نظريته عن الجنس السمات الظاهرة " لون الشعر الأشقر والشكل العام للوجه " كما رفض أيضا القياسات الأنثروبولوجية واعتبر معيار العرق الحاسم هو فى طبيعته السيكولوجية الخالصة ، وطريقة اكتشافه ذاتية ، فكل منا ينبغى أن يتعرف على الفروق بين الأجناس بلمحة عين " أليس كذلك بالنسبة لمربى الغنم الذى يملك الحدس والمذاق وعبقرية المهنة " ، تكفى لمحة لتتضح الحقيقة مثل ضوء الشمس . ويستشهد بطفلة صغيرة رآها فى حدائق باريس رفضت أن تلعب مع طفل آخر فى سنها ، فقد أدركت بفطرتها أنه يهودى .(20)
إن الطريق المباشر والأقصر إقناعا بحقيقة الجنس هو أن يحمل الإنسان " العرق " فى وعيه الخاص . ومن ينتمى لعرق نقى ومحدد يحس بذلك فى دخيلة نفسه فى كل لحظة فالعرق يرقى بالإنسان فوق ذاته ويمده بذخيرة غير عادية ، بل وبقدرات فوق الطبيعة تميزه عن الفرد الذى يأتى نتاج خليط وفوضى من الأعراق والشعوب .(21)
لكن هل يمكن إعادة نقاء الجنس وبعثه فى مجموعة بشرية معينة؟، هل السقوط يعنى أن لا خلاص ؟ هل الانحطاط يستبعد العلاج ؟ يرى تشامبرلين فى دراسته لهذه المسألة أن الأعراق يمكن أن تعيد نفسها من جديد بشرط أن تتخذ الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك. وهذا يتطلب خمسة قوانين طبيعية ، هى شروط إعادة تشكيل الأعراق النبيلة :
1-         الحصول على مادة أولية من نوعية ممتازة .
2-         حدوث تزاوج داخلى من داخل العرق على مدى طويل وممتد.
3-    القيام باختيار بعض الأفراد من داخل هذا النظام طبقا لقوانين معينة لإعادة إنتاج بعض العناصر واستبعاد البعض الآخر .
4-         ضرورة الخليط أو القيام بعمليات التهجين بين أنواع من الأفراد الممتازة كما يحدث فى عالم الكلاب .
5-    على أن يكون هذا الخليط تحت الضبط المحدد ، فبعض التهجين يزيد من نبالة الجنس وبعضه يدمر العرق . وكذلك ينبغى أن تتم عملية التهجين فى فترة زمنية محدودة بمعنى أن يتم نقل الدم الجديد فى أقصر مدة وبسرعة ثم يقف ، أما إذا استمر الخليط فقد يؤدى إلى دمار أقوى الأجناس .(22)
ومهما يكن الأمر فإن بعض علماء الأجناس يدافعون عن نظرية الجنس ويلتقون فى ذلك حول نقطة أساسية وهى أن التفوق البشرى الذى يساهم أساسا فى بناء الحضارة يرتبط بلون البشرة . وبذلك يضعون السلالة النوردية على منصة الشرف وهى السلالة ذات البشرة البيضاء والشعر الأصفر والعيون الشهباء والرأس الطويل . كما يذهبون إلى أننا يمكن أن نفهم أن التفوق الخلقى والمعنوى مرتبط بصورة ما بلون البشرة .(23)
ويبدو أنه فى ظروف التقدم الصناعى الذى حققه الأوربيون وما أتاحه هذا التقدم للأوربيين من التفوق على الشعوب الأخرى ، والتغلب عليها ، وقيام حركة الاستعمار الأوربى للشعوب واستبداد الأوربيين بها أن لاقت نظرية الجنس مناخا طيبا للانتشار والقبول من الأوربيين فأخذ الألمان بها وقالوا بالجنس الهند جرمانى بدلا من الهند أوربى كجنس متفوق على غيره . كذلك أخذ الأمريكيين بنظرية الجنس فى مطلع القرن العشرين وطالبوا بتقييد الهجرة إلى أمريكا للمحافظة على نقاء الفرع الأمريكى الذى يعد شجرة الجنس النوردى.(24)
وفى الوقت الذى يتخذ دعاة العنصرية فى الحضارة الغربية البشرة البيضاء دليلا على التفوق واعتبار ذلك علامة تفوق الجنس النوردى على غيره من الأجناس ، فإن اليابانيين يستخدمون علامة بدنية مختلفة للدلالة على التفوق تقوم على اعتبار خلو الجسم من الشعر الذى يميز الإنسان عن القرد خلافا للإنسان المشعر الذى يعد أقرب منزلة من القرد .(25)
موقفنا من نظرية الجنس :
من الواضح أن الأفكار الأساسية لهذه النظرية وهى التى تميز بين جنس وآخر باستخدام علامات بدنية مختلفة ، هى أفكار غير منطقية ولا يمكن قبولها . فمقولات التاريخ تشهد على زيف هذه النظرية وبطلانها إذ تؤكد ان الحضارة لم تكن وقفًا على جنس دون جنس فلقد ظهرت الحضارة عند كثير من الشعوب التى تنتمى إلى جنسيات مختلفة كالمصريين والهنود والسومريين وغيرهم . كما ظهرت بين الشعوب البيضاء والحمراء مثلما ظهرت عند الشعوب الصفراء . وعلى هذا فليس من حق أى جنس أن يدعى أنه وحده صانع الحضارة على مر التاريخ .(26)
ولذلك نجد أرنولدتوينبى يهدم هذه النظرية من أساسها من خلال عرضه لإسهامات النورديين وغيرهم فى الحضارات . فلقد تبين له أن إسهام الألبيين كان فى سبع حضارات : السومرية والحيثية والهلينية والإيرانية والمسيحية والأرثوذكسية والصينية ، وأن الجنس اليابانى والكوردى أسهم فى حضارة الشرق الأقصى وأن النورديون قد أسهموا فى الحضارة الهندية والحيثية والهلينية . هذا بالإضافة إلى أن الشعوب السوداء مازالت تنتظر للإسهام بطريقة إيجابية فى الحضارات المقبلة . وينتهى توينبى إلى القول بأن ذلك يعنى أن نظرية الجنس ما هى إلا هراء ويؤكد ذلك التصنيف الحضارى السالف .(27)
ومن ناحية أخرى يمكن القول إن الأفكار العنصرية التى تقوم عليها نظرية الجنس قد ارتدت على صانعيها فالذى يقهر الغير يقهر شعبه فى نفس الوقت ، والذى يمارس التمييز العنصرى سواء بسبب اللون أو العرق أو الدين بالنسبة للغرباء فإنه يرتد على داره ويمزق مجتمعه . فاليونان فى إيمانهم بأنهم أزكى الشعوب على الأرض وأقربها إلى الكمال واختصاص أنفسهم بهذا الموقف لأنهم بعد أن انتصروا على الفرس فى حروبهم الطويلة المعروفة ركبهم غرور فتعففوا عن العمل واستكثروا من العبيد لخدمتهم وقامت الحروب بين بعضهم وبعض وانقسموا إلى أحلاف يسفك بعضها دماء بعضها الآخر . فوهن أمرهم وبطلوا عن العمل ، وأنصرف قادتهم إلى العبث والاستمتاع بالحياة ، وأوغل علماؤهم فى التفلسف فابتعدوا عن الحياة وانقضى عليهم المقدونيون وكان الإغريق يحتقرونهم وأزالوا دولهم بقيادة الإسكندر .(28)
وأما الرومان فإن اعتزازهم بأنفسهم وغرورهم بشعبهم ومآثره دفهم إلى مغامرات عسكرية بعيدة المدى عادت بشر كبير وخير قليل للرومان أنفسهم ، وبلغ من اعتدادهم بأنفسهم أنهم كانوا إذا أرادوا تكريم شخص أو شعب منحوه حقوق الرومان أى رفعوه إلى مقام جنسهم ، واستمر غرور الجنس هذا يعشش فى رؤوس الأمم حتى فى عصرنا كما ظهر عند طلائع الفاشية فى عدد من دول أوربا وكذلك عند اليهود .(29)
فالصهيونية كأيديولوجية عنصرية عرقية فاشية تقدم لنا نموذجا عن هذه الحقيقة . ذلك أن العنصرية الصهيونية الموجهة فى المحل الأول ضد العرب الفلسطينيين تعود وترتد على نفسها لتمارس ذات الشىء داخل صفوف مجتمعها بين اليهود الشرقيين والغربيين أو السيفاراديم والاشكيناز . وهذه الحقيقة معروفة تماما حتى اشتق منها تعبير " إسرائيل الثانية " . ويكفى التجوال فى حيفا وتل أبيب ، أو فى الأحياء التى تشمل التجمعات الشرقية لنتبين ما يربط هؤلاء بالثقافة العربية . فالمطاعم لا تقدم سوى الأطعمة العربية ، والباعة ينادون على بضاعتهم من الخضر والفاكهة بلهجة عربية عبرية . والموسيقى التى تخرج من المقاهى هى موسيقى   أم كلثوم وسليمان المغربى وعبد الحليم حافظ ، والأنغام الشعبية بينهم أنغام عربية الخ . وقد اتسعت الهوة بين الشرقيين والغربيين كما ازداد التباعد والجفوة الاجتماعية بروزا . ولهذا فإن القول بتفاضل الأجناس واختصاص بعضها دون بعض بالذكاء والكفاءة والقدرة على بناء الحضارات أدى إلى مشاكل ومآس طويلة أغرقت البشرية فى تصرفات حمقاء غير معقولة وحروب طويلة . فالحضارة ظاهرة إنسانية عامة ، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذى يرتقى ويعمل على تحسين أحوال نفسه بفضل ما أهداه الله من عقل يمكنه من التفكير واختزان المعلومات والربط بينها والإفادة منها ، فكل أجناس البشر متحضرة ، وما من شعب إلا وله مستواه الحضارى والفرق فى المستويات ، فلا يوجد إنسان غير متحضر أصلا ولا جماعة لا نصيب لها من الحضارة . والحضارة هى ثمرة أى مجهود يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته على وجه الأرض ماديا أو معنويا .(30)
الحضارة الحقيقية هى التى تحقق للإنسان الكفاية ، والكفاية هى شعور الإنسان بأن لديه ما يكفيه مما يحتاج إليه أو يطمح إليه . وهى قسمان : كفاية مادية وكفاية معنوية .
الكفاية المادية : الإنسان فى المدينة قد يكفيه نصف مكعب من الماء والإنسان فى الصحراء قد يكفيه ربه هذه الكمية . الكفاية للإنسان الغربى تعنى مثلا أن يكون عاملا ماهرا أو مخترعا أو فلكيا والكفاية للإنسان العربى قد تعنى حصوله على درجة جامعية تؤمن له مركزا اجتماعيا مرموقا وقدرا معقولا من المال .
الكفاية المعنوية : كالأمان والاطمئنان والتفاهم والتعاون والمحبة ... الخ
ثالثا: نظرية التحدى والاستجابة    
لماذا تصل بعض المجتمعات إلى مستوى الحضارة ، وتخفق مجتمعات أخرى عن بلوغ الحضارة ؟
تعد نظرية " التحدى والاستجابة " عند توينبى من أهم النظريات التى قدمت إجابة عن هذا السؤال فى ضوء دراستها لعوامل نشوء الحضارة . فلقد ناقش توينبى معظم النظريات التى حاولت تفسير عوامل بناء الحضارة ، وقدم لها العديد من الانتقادات، كما هو الحال بالنسبة لنظرية البيئة ونظرية الجنس كما أوضحنا من قبل .(31)
فقد أنكر توينبي وجود حضارة واحدة قديمة -, مثلا القول ان مصر هي اصل جميع الحضارات , فعند توينبي خمس عشرة حضارة تصل بصلة البنوة بحضارات سابقة , وستة مجتمعات فقط قد انبعثت من الحياة البدائية مباشرة . تلك هي : { المصرية – السومرية – الصينية – المايانية – الانديانية } والاخيرتان نشأتا بأمريكا الجنوبية . -  وقال : " أنه لا يمكن ان يُعزى قيام الحضارات الى صفات معينة في جنس من الاجناس , إذ لا يمكن ان يرتبط التفوق الروحي والذهني بلون البشرة فالواقع ان جميع الأجناس قد ساهمت في انبعاث الحضارة ".(32)
كما رأى توينبي أن الصراع والصدام بين الحضارات ناتج من مخيلة الانسان على مدى تطوره الاجتماعي والحضاري , فهناك اللقاء المتناقض بين الخير المطلق وهو الله وبين الشر المطلق وهو الشيطان , هذا اللقاء التراجيدي الرهيب الذي توارثته مخيلة الانسان على مدى التاريخ نجده يتكرر في معظم الحضارات الغربية والشرقية , ونجدها في مصر وبلاد ما بين النهرين, والهند, والاغريق .... فالألم والعذاب وصور النضال ضد الطبيعة والكون هي قصة ماساة الانسان , كما انها هي نفسها قصة الانسان وقصة فدائه , وما لقاء آدم وحواء الا صورة من صور الابداع الاجتماعي الذي انتهى بمولد حضارتين متباينتين, حضارة الخصب عن طريق رعي الغنم التي يمثلها هابيل وحضارة الارض التي يمثلها قابيل . هكذا باختصار بدات الاسطورة المعبرة عن اعمق حقائق صراع الانسان مع الطبيعة والكون من اجل ايجاد مجتمعه وحضارته .(33)
ورأى توينبى أن العامل الإيجابى فى نشوء الحضارة ليس مفردا ولكنه متعدد ، وهو علامة مشتركة تكون عند تعرض الإنسان للتحدى وقيامه بالاستجابة لهذا التحدى . فعامل التحدى والاستجابة عنده هو العامل الهام الفعال الأقرب إلى ظهور الحضارة وإلى تقليل عطاء الإنسان فى حالة والعقم فى حالة أخرى، إذ قد توجد البيئة وتنشأ حضارة ، وتوجد بيئة مماثلة ولا تنشأ حضارة وسبب ذلك وجود التحدى والاستجابة فى الحالة الأولى ، وعدم وجودها فى الحالة الثانية .(34)
وقد يكون التحدى ماديا أو فكريا ، والناس ليسوا سواء فى مواجهة التحدى حتى ولو كان هذا التحدى واحدا ذلك أن رد فعل الناس يتصل فى بعضه بالقوى السيكولوجية الدفاعة التى يستحيل وزنها وقياسها أو بالأجدى تقديرها مقدما . فالإنسان هو الذى يلعب الدور الأساسى فى التغيير وليست طبيعة التحدى نفسها الإنسان هو الذى يعين مسار الانتقال والتغيير حسب الحال الذى يكون عليها وهى حالة لا يصنعها التحدى ولكنه قد يستثيرها . غير أن الاستثارة وحدها ليست كافية لعملية التغيير ، فالتحدى وحده غير جدير بتمكين الإنسان من الانتقال من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى ، إذ لابد للإنسان حتى يحقق إنجازا ما أن يحوز الكفاية اللازمة للقيام بذلك وإلا ظل حبيس الوهم والتخيل .(35)
إن مبدأ التحدى واستجابة هو المبدأ الأساسى لخلق الحضارة عند توينبى ، فنمو الحضارة لا يرجع إلى التوسع الجغرافى للمجتمع، فهذا التوسع يصحبه تخلف وتفكك بدلا من التقدم والنهوض . ولا يرجع نمو الحضارة أيضا إلى التقدم التكنولوجى أو زيادة سيطرة المجتمع على البيئة الطبيعية فلا وجود لأى ارتباط بين التقدم فى التقنية والتقدم فى الحضارة التى تنجح فى الإفصاح عن ذاتها وإرادتها عندما تتخلل قيمتها فى نفوس أبنائها وتبسط معداتها وتقنيتها .(36)
وكل حضارة لها صفة غالبة تختلف باختلاف الحضارة ، فقد كانت الصفة الاستاطيقية أو الجمالية أو الفنية هى الغالبة على الحضارة الهيلينية . والدين هو الغالب على الحضارة الهندية والحضارة الأندية " كانت توجد بالقرب من جواتيمالا بأمريكا الجنوبية " والحضارة الغربية خاضعة للآلات والمعدات العلمية وهكذا .(37)
وللحضارة وحدة على رأسها أقلية ذات روح خلاقة ، تقلدها الأغلبية وتتبعها بحرية كاملة . فلا وجود فى المجتمع المتحضر لأى صراع دموى ، فهو جسم متسق ومتوافق . ومن أهم المشكلات التى تواجه الحضارة أسباب تصدعها وهذه ظاهرة ملحوظة فلم يبقى من الحضارات الكثيرة أكثر من أربع حضارات والأخرى ماتت واقتربت من الاحتضار . والاختلاف بين نهوض الحضارة وتحللها أنه فى حالة النهوض تنجح الحضارة ، أو بمعنى أصح تنجح أقليتها الخلاقة فى الاستجابة إلى التحديات المتتالية والمتنوعة التى تواجهها ، ولكنها عندما تتدهور تفشل فى مواجهة التحديات .(38)
ولقد لاحظ توينبى فى دراسته للحضارة البشرية أن هناك بعض المجتمعات لم تستطيع الصعود أمام التحديات الطبيعية والبشرية وذلك لشدة هذه التحديات ويسمى توينبى هذه الحضارات باسم " الحضارات المتعطلة " أى التى أخفقت فى استمرارها ، ومن أمثلة هذه الحضارات ، حضارة الإسكيمو ، ومن أمثلة المجتمعات التى استجابت للتحديات " الأسبرطيون" فلقد واجه الاسبرطيون دواعى التحدى الطبيعى والبشرى .(39)

وعامة ترتكز نظرية توينبى فى انهيار الحضارات أصلا على نظريته فى التحدى والاستجابة ، فاستمرار التحدى وتكراره فى حضارة من الحضارات إما أن ينتهى باستجابة على التحدى وتصعد الحضارة فى طريق التقدم ، وإما أن تخفق هذه الحضارة فى الرد على ذلك التحدى وفى خلق استجابة إزاء تلك التحديات ، وهذه السلسة المتكررة من الاستجابة المخففة إزاء هذه التحديات هى فى الحقيقة المصدر الأساسى لتدهور الحضارات .(40)
ولذلك يقول توينبى عن نظريته في التحدي والاستجابة :" اعتقد انه في كل لحظة من حياة كل فرد فينا , وفي كل لحظة من حياة مدنية من المدنيات , يتحدانا على الدوام موقف جديد , موقف علينا ان نواجهه , فاما نجحنا او فشلنا . وقد نفشل في أي لحظة ونبدأ في الانحدار , وقد ننجح ونستمر في العيش ".(41)
ويعني التحدي وجود ظروف صعبة تواجه الإنسان في بناء حضارته وتكون استجابته إما ناجحة إذا تغلب الإنسان على هذه المصاعب ، أو استجابة فاشلة إذا عجز الإنسان على مواجهة هذه المصاعب, فالتغلب على هذه المصاعب هو واقعة نمو حضاري ، والرضوخ تحت وطأتها عند الانطلاق علامة على الانحلال والسقوط ، والتحدي إما يكون ناتجا عن الظروف الطبيعية الصعبة والقاسية أو يكون تحديا بشريا في شكل عدوان خارجي من طرف دولة أو جماعة بشرية أخري معادية.(42)
إن الحضارة في رأي توينبي تواجه أنماطاً مختلفة من التحديات, فاذا ما استطاعت ان تجيب على هذا التحدي , استطاعت ان تعيش وتنمو وتزدهر وإلا فإن مآلها الى الزوال والاندثار فالحضارة تقوم مدفوعة بقانون { التحدي والاستجابة } القائل ان الظروف الصعبة هي التي تستثير الامم على اقامة الحضارات . في سياق توافقي مادي – معنوي ".(43)
وبالرغم من ضرورة تعرض الحضارات للتحديات كشرط أساسى للارتقاء إلا أن هذه التحديات لابد أن تكون متوسطة العنف كى تكون حافزا على مضيها فى الطريق الصاعد . هذا التحدى الوسط بين طرفين : طرف الإفراط وطرف التفريط يطلق عليه توينبى اسم " الوسط الذهبى " الذى يضمن تقدم الحضارات فى طريق الارتقاء لأنه إذا كان التحدى عنيفا فعندئذ سوف تخفق الحضارة فى تحقيق استجابة ملائمة له ، وإذا كان ضعيفا سوف تخفق أيضا لأنه حينذاك لن يشكل هذا التحدى دافعا بأى صورة للحضارة وارتقائها.(44)
ومن هنا نلاحظ أن الأحوال الصعبة هى فقط التى تهيئ للبيئات الطبيعة والبشرية فرصة قيام الحضارات . ولذلك يرى توينبى أن هناك خمس دوافع رئيسية تتصل بطبيعة البيئة وهى فى الحقيقة مبدعة الحضارات :-
أولا :- دافع الأرض الصعبة :
الدوافع الصعبة التى تواجه الإنسان هى التى تولد لديه قدرة التحدى التى تساهم فى بناء الحضارة فالنهر الأصفر فى الصين – على سبيل المثال – طرح تحديات هائلة للإنسان ، فهو لم يكن صالحا فى أى موسم بالإضافة إلى تجمده فى الشتاء ، ومع ذلك فقد واجه الإنسان تحديات هذا النهر وحاول أن يغير اتجاهه طوال أربعة آلاف عام إلى أن تمكن من ذلك بالفعل .(45)
ثانيا :- دافع الأرض الجديدة :-
يرى توينبى أن تاريخ معظم الحضارات يبين أن ذروة ازدهارها كان فى تلك المناطق الجديدة ، التى لم تكن من قبل موطنا للأسلاف . فهناك العديد من الهجرات التى حدثت فى التاريخ مثل هجرة التيوكويين والأيوبيين والفلسطينيين والإنجليز ... الخ . وكلها تؤكد حقيقة واحدة وهى انتقال الأنظمة الاجتماعية لهؤلاء المهاجرين إبان حدوث الهجرات ، وهكذا تأخذ هذه الهجرات عند توينبى شكل الحافز الحضارى .(46)
ثالثا :- دافع النكبات والضربات :-
     يترتب دائما على دافع النكبات ردود أفعال عديدة تلاحظ بصفة خاصة فى تلك التى تنجم عن الكوارث الحربية وهناك ردود أفعال أخرى يتمثل أهمها فى الردود الدينية من خلال أعمال الرسل.(47)
رابعا :- دافع الضغوط :-
والمقصود بالضغوط هنا الضغوط الخارجية ، أو تلك التحديات الخارجية التى تأتى من الخارج . وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح فى تاريخ الحضارة المصرية حيث كان الجزء الجنوبى معرض دائما لضغط قبائل النوبة واعتدائها ، ولأن هذا الجزء هو الأكثر تعرضا للتهديد فقد تميز منذ ذلك الحين بنفوذ قوى واستطاع من خلاله مجابهة التحدى الخارجى .(48)
خامسا :- دافع العقوبات :-
ويرتبط بالتحديات الداخلية التى تصيب جزءا فقط من الكيان الاجتماعى بفقدان القدرة على مواجهة ذلك التحدى .
وإذا كانت هذه الدوافع تساهم فى بناء الحضارات ، فإن التحديات لابد أن تكون متوسطة العنف . ومن ثم كان تأكيد توينبى على قانون الوسط الذهبى بدلا من القانون القائل : " كلما زاد التحدى زاد الدافع " .(49)
                  انهيار الحضارات :
والحضارة تنتهى بالانتحار لا بالقتل ، ويلخص توينبى عوامل انهيار الحضارات فى ثلاثة عوامل : إخفاق الأقلية المبدعة أو فشل قوتها الخلاقة وفتور الإيمان عند الأغلبية أى انسحاب الأغلبية عن الأقلية الحاكمة وضياع الوحدة الاجتماعية للمجتمع . فعندما تتدهو الأقلية الخلاقة وتتحول إلى أقلية محبة للسيطرة وتحاول الاحتفاظ بسلطانها على المكانة التى لم تعد جديرة بها يتسبب هذا التغير القاتل فى طابع الحاكم فى استفزاز الأغلبية الموالية له التى تفقد إعجابها به ، وتتوقف عن مساندتها له ، بل وتثور عليه . والموالون للحاكم ينقسمون عادة إلى موالين فى الداخل وموالين فى الخارج ، وسرعان ما يؤدى فقدانهم لروح الأقلية الحاكمة إلى تشاحنهم وظهور حرب طبقية تنتهى أحيانا بانتقال السلطة إلى نظام كنائسى يمثل الروح الدينية وتنحية الأقلية الفاشلة والاستعاضة عنها بحكام جدد .(50)
 وهكذا يرجع توينبي سبب انحطاط الحضارات إلى عوامل داخلية ، فهو يرفض الآراء التي ترد السقوط إلى أسباب حتمية خارجة عن قدرة الإنسان ، فالسقوط والانهيار سببه داخلي وليس ناتجاً عن غزو خارجي ، والعامل الرئيس في انهيار الحضارات يكمن في فقدان الأقلية الحاكمة للطاقة المبدعة ، إذ تفشل في الاستجابة المناسبة للتحدي القائم.(51)
ومعنى ذلك أن الحضارة تنهار داخليا قبل أن تطأها أقدام الغزاة ، والعامل الرئيسى فى انهيار الحضارة هو فقدان الأقلية الحاكمة للطاقة المبدعة فيها . والمجتمع فى حالة الانهيار يتشكل على النحو التالى :-
1-        أقلية مسيطرة فقدت قدرتها على الإبداع وأصبحت تحكم بالقهر .
2-        بروليتاريا داخلية ذليلة ، ولكنها عنيدة تتحين الفرصة للثورة .
3-        بروليتاريا خارجية انشقت عن المجتمع وتقاوم الاندماج فيه وتتحين الفرصة للغزو .(52)
       وهكذا يفسر توينبي انهيار الحضارات بتحلل المجتمعات من الداخل قبل أن يأتيه غزو من الخارج ليجهز عليه ، ذلك أن الغزو الخارجي في مثل هذه الحالة يمثل الضربة القاضية في مجتمع يلفظ أنفاسه الأخيرة ، لذا يمكن القول : إن أية حضارة لا يمكن أن تنهار من الخارج من دون أن تكون قد تآكلت من الداخل ، إذ لا يمكن بحال من الأحوال قهر أية إمبراطورية من الخارج إذا لم تكن قد انتحرت من الداخل .(53)
وتمر مرحلة التدهور فى ثلاثة أطوار : أولها التصدع ثم التحلل والتفتت : وعلى سبيل المثال حدث تصدع للحضارة المصرية القديمة فى القرن السادس عشر قبل الميلاد ولكنها تحللت فى القرن الخامس الميلادى . فى خلال هذه المدة أى زهاء ألفى سنة بقيت فى حالة متحجرة شبيهة بالموت . وفى الصين بالمثل تصدعت حضارتها فى القرن التاسع الميلادى وبقيت ألف سنة حتى انتهى تحللها .
   إن ما نود التأكيد عليه هو أن انهيار الحضارة يرجع إلى عدم وجود استجابة ناجحة للظروف المختلفة ، فالحضارات تولد أساسا وقتما تستحث الظروف الصعبة الإنسان على التحضر ، وتتمثل هذه الظروف فى بيئات طبيعية أو ظروف بشرية ، ومن ثم فإن الظروف السهلة لا تؤسس حضارة . كما أن الذين يتمسكون بالاستجابة هم الذين يتمكنون من البقاء فى مواطنهم ويبنون حضاراتهم .(54)
ولم يتوقف توينبى عند هذا الحد ، بل تحدث عن مصير الحضارة الإسلامية " فأكد أنه برغم النكبات التي حلت بالحضارة الإسلامية لوقوع معظم دولها فريسة للإستعمار ، إلا أنه لن يأتي اليوم الذي تجمد فيه  الحضارة الإسلامية وتتحجر كبعض الحضارات المتحجرة في عالمنا اليوم ، بل يرى أن الحضارة الإسلامية حضارة قد تٌنافس الحضارة الهندوكية أو البوذية من أجل السيطرة في المستقبل بوسائل تتعدى تصوراتنا ، حيث أن طابع الحضارة الإسلامية هو الاتساق بين الفكر والعمل و المساواة ، إذ ارتفعت في أزهى عصورها إلى أن وصل الرقيق أو العبيد إلى أرقى مراكز السلطة ، فمثلا تولى المماليك - الذين كانوا عبيد - الحكم في مصر . وكذلك تحريم الخمر ، فقد لا يدرك الكثيرون قيمة هذا التحريم بالنسبة للحضارة ، حيث أن الإمتناع عن شرب الخمر لا يتم إلا بوازع ديني ، وهو في نفس الوقت عامل مهم لإزدهار الحضارة".(55)
    وتحدث توينبى عن واقع الحضارة الغربية المعاصرة مبينًا أهم التحديات التى تواجهها. ورأى أن الحضارة الغربية تواجه اليوم كثيرا من المشكلات منها احتمال قيام حرب عالمية ثالثة ، وتأليه هذه الحضارة للدولة، "والفراغ الروحى " الذى يمثل الخطر الحقيقى الذى يواجه الغرب  ووجود عقائد بديلة كالقومية والفاشية. (56)
وبالرغم من تأكيد توينبى على وجود أعراض تصدع فى هذه الحضارة فإنه قد آثر الحياد ولم يصدر حكما قاطعا بشأنها ، وكأنه يتوقع حدوث معجزة . وقد عبر عن ذلك فى ابتهال إلى الله بأن يرجئ نهاية عالمنا ، أعلن عن إيمانه بأن الله سوف يستجيب إلى هذا الدعاء مادمنا نشعر بالندم وقلوبنا محطمة . كما رأى توينبى أن السبيل الوحيد أمام الغرب هو العودة إلى الطريق الصحيح ، طريق الإله الخالق . فخلاص الغرب لا يمكن أن يتحقق إلا بمعجزة الدين ، ويبدو أن الدين عند توينبى عظيم الأهمية ، وهو الملاذ الذى يجب أن يلجأ إليه الغرب . فالرجوع إلى الله هو نهاية المطاف فى التطور من حالة إنسان ما قبل الحضارة إلى حالة الإنسان المتحضر إلى السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذى يتجاوز الحضارة .(57)
     وخلاصة القول : إن الحضارة إذا تغلبت على التحدى يمكنها أن تمضى فى الطريق من جديد ، وأن تنسحب وتعود مرة ثانية ، أو يمكن أن تتجمد إلى أن يشاء لها الله بالحياة أو السكون أو الموت. ولكن الموت هنا ليس حتميا ، أى ليس حتمية عضوية ، فالإنسان له دور كبير فهو القادر على الرد على التحدى ومن ثم فإن " الحضارات لا تولد تماما ولا تموت تماما" . ولقد استطاعت تحليلات توينبى المتفائلة هذه أن تخلق جيلا من المفكرين والقادة يؤمن بأن القارة العجوز " أوربا " تملك القوة الخلاقة التى تكفى لارتقاء الحضارة .. ويرى هؤلاء أن القوى الخلاقة متوفرة فى السياسة الأوربية ، وفى الاقتصاد الأوربى ، وفى الفنون كالمسرح والسينما والموسيقى والتقدم ، وفى التوجهات الديمقراطية والتطلع إلى السلام.(58)
                                     الهوامش
1- يسري الجوهري : اسس الجغرافية البشرية ،منشاة المعارف بالاسكندرية ،1982، ص 115
2- أرنولد توينبى: مختصر دراسة التاريخ، ترجمة ، الجزء الأول، ص 93
3- الموضع نفسه
4- ابن خلدون : المقدمة، نشر وتحقيق على عبدالواحد وافى، لجنة البيان العربى عام 1957، ط1، ص 90
5- الموضع نفسه
6- المرجع نفسه ، ص 95
7- د. محمد ضيف الله بطاينة : فى تاريخ الحضارة العربية الاسلامية، عمان، الاردن، دار الفرقان ،1985ج1،ص 42
8- نيفين جمعة:فلسفة التاريخ عند أرنولد توينبى،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1991، ص115
9- د. حسين مؤنس:الحضارة ، دراسة فى أصول وعوامل قيامها وتطورها، سلسلة الم المرفة، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط2،1998،ص 42
10- المرجع نفسه، ص 45
11- المرجع نفسه، ص ص 45-46 
12- اديب ديمترى :نفى العقل،مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ط1، 1993،ص 278
13- د. محمد ضيف الله بطاينة، مرجع سابق،ص 13
14- اديب ديمترى، مرجع سابق،ص 279
15- الموضع نفسه
16- الموضع نفسه
17- د. محمد ضيف الله بطاينة، مرجع سابق، ص 13
18- آدريين كوخ : آراء فلسفية فى أزمة العصر،
19- اديب ديمترى، مرجع سابق، ص 282
20- الموضع نفسه
21- الموضع نفسه
22- المرجع نفسه، ص ص 282-283
23- د. محمد ضيف الله بطاينة، مرجع سابق، ص 12
24- المرجع نفسه، ص 13
25- المرجع نفسه، ص ص 13-14
26- الموضع نفسه
27- د. حسين مؤنس، مرجع سابق ، ص ص 48-49
28- المرجع نفسه، ص 50
29- المرجع نفسه ، ص 51
30- راجع فى ذلك :
- اديب ديمترى، مرجع سابق، 173
- د. حسين مؤنس، مرجع سابق، ص ص 56-57
31-Tymbee, A ,J: Civilization and the Historical  progress,p-52
32- لوسيان فيفر : الارض والتطور البشري ،ترجمة محمد السيد غلاب، ط2،دار المطبوعات الجديدة ،القاهرة ، 1973، ص 33
33- أرنولد توينبى : مختصر دراسة التاريخ ، ج1، ص 73
34- د. محمد ضيف الله بطاينة، مرجع سابق، 15
35- د.أحمد محمود صبحى: مرجع سابق، ص ص 265-266
36- المرجع نفسه، ص 169
37- المرجع نفسه : ص ص 269-270
38- أرنولد توينبى : مختصر دراسة التاريخ،ترجمة د.فؤاد شبل ، لجنة التأليف والترجمة، 1966 ص 33
39-  نيفين جمعة: مرجع سابق ، ص 122
40-  د. محمد ضيف الله : فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ص 18
41- أرنولد توينبى : مختصر دراسة التاريخ، ص 44
42- المرجع نفسه ، ص 17
43- الموضع نفسه
44- المرجع نفسه ، ص ص 459-460
45- نيفين جمعة: مرجع سابق ، ص 119
46- المرجع نفسه ، ص ص 119-120
47- المرجع نفسه ، ص 120
48- المرجع نفسه ، ص 121
49- الموضع نفسه
50- أرنولد توينبى : مختصر دراسة التاريخ، ص ص 45-46
51- نيفين جمعة : مرجع سابق ، ص 15
52- د.أحمد محمود صبحى: مرجع سابق،ص 273
53- المرجع نفسه ، ص 270
54- د. حسن الكحلانى : فلسفة التقدم ، دراسة فى اتجاهات التقدم والقوى الفعالة فى التاريخ ، مكتبة مدبولى، القاهر، ص 67
 55- المرجع نفسه ، ص 287
56- الموضع نفسه
57- أرنولد توينبى : مختصر دراسة التاريخ، ص ص 93
58- أرنولد توينبى : الفكر التاريخى عند الأغريق ، ترجمة لمعى المطيعى ، مراجعة د. محمد صقر خفاجة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة، ص ص 14-15، مقدمة المترجم



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس