موقف فلاسفة الإسلام من علم الكلام فهما وتقويما
بقلم : اشريف مزور
-1توطئة في مضمون ومنهج علم الكلام
يتشكل الفكر
العربي الإسلام في عرف العديد من الدراسات العربية وغيرها من اتجاهات ثلاثة: فلسفة
عقلانية خالصة كما يجسدها فلاسفة الإسلام الذين عملوا على التوفيق بين علوم الأنا
وعلوم الآخر، علم الكلام أو علم المناظرة العقدي الذي ابتدأ بالحديث عن قضايا
سياسية بتوسط الدين مستعملا المفاهيم الدينية (القدر، الإيمان، الكفر، الإرجاء...)
حتى صار حراسة للعقيدة بالحجاج العقلي. ثم التصوف الذي يمثل "قمة سعي الإنسان
لإكمال وجوده أمام ربه" "فالمتصوفة هم وحدهم الذين وقفوا الموقف
البارمنيدي الثابت في وجه النهر الدنيوي الهيرقليطي السيال والجارف حتى
للفقهاء"([1]).
وبعيدا عن
الدراسات الاستشراقية التي مالت إلى رد ألوان الثقافة العربية الإسلامية بقضها
وقضيضها إلى مصادر خارجية، أو في أحسن الأحوال إلى العناصر الآرية التي دخلت تحت
مظلة الفتح الإسلامي تحت ذريعة أن العقلية السامية لا تصلح لبناء أنساق فكرية
وعلمية وفنية، فإننا نقرر أن التيارات النظرية الناشئة في حضن الإسلام تطورت في
حوارية شغالة داخل وخارج عقر الدار.
تعاريف علم
الكلام من الشساعة والتباين بمكان: صناعة الكلام، التوحيد، أصول الدين، الجدل،
الفقه الأكبر...، ([2])،
كما أنها من مصادر مختلفة: من علم الكلام ذاته، من الفلسفة، من علم التاريخ... يحق
تنضيدها وفق صنافات تخرجه من سكونيته الإيلية حين ضياع جنسيته عندما امتزج بالفلسفة
إلى حركية هيرقليطية كما كان ديدنه في أوج ازدهاره إبان الحضارة العباسية.
يعرفه الغزالي
في الإحياء: "الكلام [...] حراسة لقلوب العوام عن تخيلات المبتدعة"([3]).
أما الفارابي
في الإحصاء فيحدده قائلا: "وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء
والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل، وهذا
ينقسم جزئين أيضا: جزء في الآراء، وجزء في الأفعال"([4]).
وبالنسبة لابن
خلدون نلفيه يضمنه "الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد
على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة"([5]).
من جماع ما
سلف يكون الكلام بعيون المعاصرين "العلم الذي يختص بدفع الاعتراضات على أصول
العقيدة، إذ جانبه التأسيسي أو الإثباتي لم ينشأ ويتطور إلا بالاستناد إلى جانبه
الإبطالي أو النقدي"([6])،
ولا غرو في ذلك، مقتضاه أنه "مؤسسة نقدية للخطاب الديني تعمل النظر في موضوع
"ما هو الوحي ؟"([7])،
وعندما يتعلق الأمر بالقول البشري عن القول الإلهي حصلت الكثرة التي لا تطعن في
الدين في شيء([8]).
الخوض في علم
الكلام لا يجعلنا نقف على مناخ فكري واحد لاسيما عند استحضار تعدد الفرق الكلامية
عبر مسار تاريخي طويل ومساحة جغرافية شاسعة.
لا نروم من
هذا المقال استعراض القضايا التي خاض فيها متكلمتنا، فذلك أمر مطروق وبإسهاب، بقدر
ما نؤم غاية مؤداها فحص مسألة التحول المضموني والمنهجي الذي طرأ في جدالات
المتكلمين لاسيما عند اللحظة المعتزلية، إضافة إلى بيان موقف فلاسفة الإسلام من
الممارسة الكلامية فهما وتقويما.
ظهر الكلام مع
ظهور الخلاف في الإمامة (الخلافة) وما يتعلق بها زمن علي (بين الشيعة
والخوارج والمرجئة وأنصار معاوية)، والأصول التي نقيد عموميتها هنا بمسألة
القدر والفعل الإنساني بين القدرية (معبد الجهني، غيلان الدمشقي)
والجبرية (الجهم بن صفوان، الجعد بن درهم) (*)، إلى حادثة
اعتزال واصل مجلس جيشه الحسن البصري في قضية مرتكب الكبيرة. وسواء
أخذنا بالرواية التي تنسب حدث نشأة المعتزلة صراحة إلى اعتزال السياسة عام الجماعة
(عام تسليم الحسن بن علي لمعاوية سنة 40هـ)، أو عدنا بالاعتزال إلى موقف
عدد من الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة زمن عثمان، ووقفوا بحياد في الصراع
بين علي وخصومه (طلحة والزبير وعائشة)، أو تم ترجيح الرواية التي
تربط ميلاد المعتزلة الرسمي بانفصال واصل عن الحسن البصري، فإن ما ينبغي
التركيز عليه في جميع هذه المناسبات هو "الارتفاع بالموقف من مستوى الفعل
السياسي إلى مستوى النظر والتفكير"([9]).
في الفكر
الإنساني عامة نتحدث عن التناص(**) ، إذ لا إبداع
من فراغ (لاشيء من لاشيء)، والكلام الاعتزالي لا ينأى بنفسه عن هذا التحديد،
الكلام الاعتزالي منظورا إليه من زاوية تطور بنائه الداخلي إعادة تبويب لما جادل
فيه المتكلمون الأوائل، فمفاهيم القدر والإيمان ومرتكب الكبيرة وغيرها التي عكست
حدة الصراع السياسي مع الأمويين أدخلها المعتزلة تحت مسمى العدل الإلهي (الله لا
يفعل إلا الصلاح والناس يتحملون مسؤولية أفعالهم)([10])،
وغير بعيد عن ذلك "وبما أن علم الكلام هو بالدرجة الأولى، ثمرة التقاء العرب
والفرس في رحاب الإسلام، ومجلى لثقافتهم ومعارفهم ولحقيقة تعاملهم مع النص"([11])،
فإن الوضع اقتضى تركيز الأنظار في التوحيد (تنزيه الذات الإلهية) بحكم التصدي للمانوية
وأصحاب التعدد في الذات الإلهية من الملل والنحل الأخرى الذين بسطوا تصوراتهم
العقدية بكامل حرية. وعلى هذا، ابتعد الكلام عن الميدان السياسي ليلتصق بآفاق
الدفاع والحجاج عن العقيدة الإسلامية، بعبارة أخرى، إن التحول من الجدل مع طرف
داخلي إلى خصم خارجي كان ولابد أن ينعكس على منهج المناقشة والمناظرة، إذ طبيعة
الرؤية تحدد المنهج على اعتبار إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع. توسل الخلاف
داخل الأنا مفاهيم دينية إسلامية (الإيمان، الكفر، مرتكب الكبيرة...) واعتمد
مرجعيات إسلامية، لكن بعد أن فز زعماء المسلمين لمواجهة الاستفزازات العقدية
الآتية من الخارج، تحول إلى خلاف تكلم مفاهيم كلية ومرجعيات كونية يحتكم إليها
البشر مهما كانت عقيدتهم الدينية أي معطيات الحس كمنطلق للاستدلال (الاستدلال
بالشاهد على الغائب)([12])،
فالكلام المتقدم كان كلاما يسعى إلى دعم النص الموحى في جانب عقدي اعتمادا على
أساس فلسفة طبيعية التي استعاض عنها الكلام المتأخر بالمنطق الأرسطي بمقاييسه([13]).
مبدأ التحول هذا يحكم كل مفاصل الفكر الاعتزالي لاحقا، فالقول بالجوهر الفرد
(الفيزياء الكلامية حسب الجابري) وما يلزم عنه من حدوث العالم (دقيق
الكلام) كان لغاية إثبات ما يرتبط بجليل الكلام (اللـه، ذاته، صفاته...) أي لتأكيد
وجود الله ووحدانية ومخالفته لكل الحوادث([14]).
وبما أن
اليقين لا يمكن أن يكون بصدد الموجود بما هو موجود، فقد "أصبح الكلام
المعتزلي على الديانات الأخرى والفلسفات باعثا على الكلام على المعتزلة أنفسهم بما
أدخلوه في العقيدة الإسلامية من بدع ومقالات، ومن طرق في فهم النصوص العقدية
الأصلية وفي الاحتجاج بها"([15])،
ومع أن مجهودات المعتزلة في الدفاع عن عقيدة الإسلام حقيقة مؤكدة لا ارتياب فيها،
فإن تحول الاعتزال بنجاح الثورة العباسية إلى خادم لبنيتها النظرية العامة (المأمون
والمعتصم والواثق) أوقعه في نقائص منها([16])
أنه: "نزعة لا حوارية تتعالى على الآخر المخالف لأنه لابد أن يكون
مخطئا"، وكذلك "نزعة نظرية فردانية ذات طابع سيكولوجي"، "ولا
عملية تقلل من شأن أعمال الجوارح حين تلحقها بمجال الظن وغلبته...". وتظهر
نزعتهم المتعالية بالخصوص في محاولتهم فرض تصورهم للكلام الإلهي والقول بخلق
القرآن الذي أدى إلى محن.
قدر الفرق
الكلامية أن تنشأ من صراعات سياسية أو خلافات شخصية، ذاك ما ينطبق على أبي الحسن
الأشعري الذي لم يجد إجابة كافية عند شيخه الجبائي في مسألة الأصلح
والتعليل في حقه تعالى(*) ، ولا يعني انفصال التلميذ عن الأستاذ القطيعة التامة
معه، إذ تبنى الأشاعرة الكثير من مقدمات المعتزلة (الخلاء، الجوهر الفرد وما يترتب
عنه من القول بالتجويز...). أخذ مؤسس المذهب على عاتقه مهمة العودة إلى السلف فنفى
التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه الصحابة([17])،
وقال بالكسب كحل وسط، ذلك أن الفعل الإنساني صادر عن الله خلقا، وعن الإنسان كسبا.
أما خلفه الباقلاني، فطور المذهب الأشعري من خلال المقدمات التي يبنى عليها
(خاصة بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول...) في أسلوب جدالي (فإن قالوا قلنا)، عكس
الجويني الذي سلك طريقة تقريرية في صياغة مبادئ الأشعرية في إطار طريقة
المتقدمين. بعدهما مباشرة عمل المتكلمون على توظيف جوانب من منطق أرسطو في
أبحاثهم خاصة مع الغزالي (طريقة المتأخرين) الذي عاش في زمن التنكيل
بالمعتزلة (البيان القادري) والترسيم الإيديولوجي للمذهب الأشعري، لكنه أيضا زمن
التبست فيه مسائل الكلام بمسائل الفلسفة([18]).
يبدو أن
التوجه الاعتزالي وسليله الأشعري النابع منه يشتركان في ادعاء الاحتياج إلى
المدارك العقلية لتعضيد العقائد الإيمانية وتثبيتها، وقد أدى ذلك أحيانا إلى
الابتعاد عن المصرح به في الكتاب والسنة، فجر عليهم وبالا من السهام الحنبلية (ابن
تيمية)، فقد نص الأخير على مبدأ عام "الأصل في المعرفة العقدية هو
المدارك الشرعية"([19])،
وربما قد صدر في ذلك عن قناعة مفادها أن القرآن نفسه (بوصفه المثل الأعلى الذي لا
يتسامى إلى بيانه متكلم أو محتج، ولا يناصي أساليب احتجاجه مستدل أو محاجج) "يعرض لأول مرة في تاريخ الدعوات الدينية الكتابية القضايا
والأطروحات النظرية (الميتافيزيقية) عرضا نقديا في أسلوب يمتزج فيه الحجاج
والمناظرة وطلب الإقناع والحرص على البرهنة"([20])،
وكأننا به يحرص على أولوية النقل ولا شيء غيره.
حاصل ما
قلناه، عرف علم الكلام تقلبات مست مضامينه ومناهجه، وهذه التحولات استجابة
لتنقيرات -غالبا خارجية (المانوية، منطق أرسطو)- لا يطيقها إلا الأكياس،
فإذا كان ابتدأ لجاجا سياسيا بقناع ديني، فإنه سرعان ما غدا دفاعا عن دين الإسلام
أمام الملل والنحل الأخرى، وهذه كلها إسهامات استلزمها الزمن ونقد الخصوم (إثراء
النقد ونقد النقد)، ولذا يجب مواجهة خطابات هؤلاء بصدر رحب وبإيجابية بعيدا
عن تقويمها بالمنطق الثنائي القيمة (صدق/كذب) وفتح الباب لمعيار الملاءمة وغير
الملاءمة كمقياس للقبول أو الرفض.استرشادا بما تعلمنا إياه الابستمولوجيا المعاصرة
من أنه في النظريات العلمية لا مجال للحديث عن حقيقة مطلقة إذ العلم تاريخ أخطائه، والنظريات تقلم
وتشذب عبر أرجوحة من النظر والتجريب متداخلين، والساحة العلمية ميدان لبقاء الأصلح
من النظريات حسب قدرتها التفسيرية والتنبؤية التي سرعان ما تتهاوى بظهور مكذبات
تبشر ببراديكم علمي جديد.
-2موقف فلاسفة الإسلام من علم
الكلام
ما هو السبب
في انتقاص فلاسفة الإسلام من أهمية الممارسة الكلامية ؟
يذكرنا حكم ابن
خلدون على الفلسفة بالهشاشة والقصور(*) بموقف سلفه ابن حزم الذي انتقد علم الكلام مبينا
فساد مقدماته ومنهجه في العقل والشرع.
دافع الفقيه
الظاهري (ظاهريته التي يقتفي فيها أثر داوود الأصفهاني ظاهرية نقدية
أصولية) عن الفلسفة العملية داعيا إلى اقتناص منافعها، وقد وجد فيه الراحل الجابري
مشروعا فكريا فلسفي الأبعاد يطمح إلى "إعادة تأسيس البيان كنظام معرفي يؤسس
فكر أهل السنة معتزلة وأشاعرة بالعمل على بنائه على البرهان (المنهج الاستدلالي
الأرسطي)، مع إقصاء العرفان الشيعي والصوفي منه إقصاء تاما"([21])،
والذي يبرر ذلك هو توجه ابن حزم مباشرة إلى نقد الأسس والأصول التي تقوم
عليها الرؤية البيانية الكلامية: مبدأ الانفصال الذي تجسده نظرية الجوهر الفرد
(أشياء العالم ترجع إلى ذرات يقوم بينها خلاء) والتي تقتضي تدخل الإرادة الإلهية
بشكل دائم فلا طبع ولا طبيعة (وبخلاف ذلك تبنى موقف أرسطو القائل بأن الجوهر ليس
شيئا آخر غير الجسم). مبدأ التجويز الذي يقتضي إنكار السببية([22])،
مبدأ القياس (الاستدلال بالشاهد على الغائب)، الذي استعاض عنه بما سماه بـ
"حجج العقول"، وهو المنهج الذي يعتمد استخلاص النتيجة من مقدمات صحيحة
مستمدة من معطيات الحس والتجربة ويقبلها العقل([23])،
(المنطق الأرسطي الذي ألف فيه كتابا "التقريب لحد المنطق...").
يظهر الطابع
السجالي والحجاجي لكتابات ابن حزم في موسوعته الموسومة "بالفصل في
الملل والأهواء والنحل"، وقد سجل الباحث المغربي المقتدر محمد أيت حمو
ملاحظات ثلاث من الأهمية بمكان بخصوص هذا المؤلف النقدي([24])،
اختصت الأولى "بإبراز ريادة ابن حزم في التأريخ للأفكار والاتجاهات
الدينية في الغرب الإسلامي في إطار عملية تصنيفية وتناسق نظري ورؤية شمولية"
عكس سابقيه الذين اكتفوا بحشر المعلومات، بينما تميزت الثانية ببيان
"المعيارية التي خضعت لها العملية التصنيفية لترتيب سلم الاختلافات" إذ
يبدأ بالطوائف التي خلافنا معها أكثر (الشكاك، الدهرية...)، لينتهي بالفرق التي
خلافنا معها أقل (الشيعة، معتزلة، أشاعرة)، مع إيضاح دواعي استئثار النصارى
واليهود بالقسط الأوفر من الكتاب من غيرهم لقوتهم السياسية والاقتصادية والثقافية
زمنئذ، وتفصح الثالثة عن ثقافة ابن حزم الفسيفسائية من خلال ابتكاره
"للمنهجية التوثيقية في نقده للديانتين اليهودية والمسيحية" إذ عمل على
مصادمة النسخ بعضها ببعض مستخرجا مكامن الخطأ فيها ومسترشدا بالقوانين المطردة
التي يسير المجتمع الإنساني والعالم على هديها، وما وصلت إليه العلوم في عصره.
ولا يرى الجابري
في نزعة ابن حزم العقلانية إلا إرهاصات سيعمل ابن رشد على تطويرها
واستخلاص النتائج الضرورية منها في إطار تجاوز النقد المشرقي للفلسفة([25]).
كانت الغاية
من إشارتنا العجلى إلى موقف ابن حزم من علم الكلام هي لفت النظر إلى أن هذا
العلم لم يلق معارضة فقط من لدن متفلسفة الإسلام، بل حتى من متفقهته، وما أندر
المتنورين منهم !.
يقوم النقد
الفلسفي لعلم أصول الدين على أسس أخرى لها صلة وثقى بالمشروع الكبير الذي أمه
فلاسفة الإسلام في الإبيستمي الوسطوي، ذلك أن الرائدين (الفارابي وابن رشد)،
ومن زاوية فلسفية بحتة، بحثا عن مكان ما للفلسفة داخل منظومة العلوم الإسلامية
فيما عرف بتقرير التوافق بين الحكمة والشريعة والذي يخفي في تجاعيده حقيقة احتياج
الملة إلى براهين الفلسفة. ومن النصوص التي تصب في القلب النابض لهذه الإشكالية
نذكر "الملة" و "الحروف" للفارابي، "وفصل المقال
والكشف" لابن رشد فما علاقة علم الكلام بهذا المشروع الكبير ؟
ثبت فيما سبق
أن الكلام حجاج في العقيدة الدينية الإسلامية بين جهتين: جهة تنصر وأخرى تبطل
وتزيف، فإذا كان الفقه بحثا ونظرا واستنباطا وتوليدا، فإن الكلام استرسال تفاعلي
في مسائل ملية([26]).
مما يحملنا في اتجاه الوقوف على أمرين محوريين: الأدلة الدينية وأساليب المتكلمين
في النصرة والتزييف.
تلتئم الملة
من جزئين: نظري وعملي، وكذلك الفلسفة، "فغاية النظر هو الحق والعلم فقط،
وغاية العملي هو إيثار الشيء والهرب من آخر، وغاية العملي لا يحصل للإنسان ببصيرة
نفسه إلا بعلم لها سابق قبل العمل أو مع العمل"([27])،
والفرق بينهما "ليس في الأداة ولا في القضايا، وإنما في الخطاب: الخطاب
الديني بياني، أما الفلسفي فبرهاني، يبرهن على ما في الدين من قضايا"([28])،
مما يعني أنه ما من قول ملي (نظري وعملي)، إلا وله نظيره الحكمي الذي يفضله بنائيا
وانتمائيا، أي بلغة المصباحي "الاندراج الابستمولوجي"([29]) **) الذي يوازيه
أفضلية غنوصيولوجية وأنطولوجية للفلسفة على الملة"([30]).
وبناء على
ذلك، انتهت مقاربة فلاسفة الإسلام للملة إلى علم فلسفي للشرائع الإلهية بعد
أنسنتها (وهي وحي) بفضل صناعتي الفقه والكلام([31]).
هكذا إذن قدمت الملة عرية عن البرهان مما يبرر ويشرعن تبيئة المدونة الحكمية في
المجال النظري العربي الإسلامي. ولأجل ذلك نلفي الخطاب الرشدي في "كشفه"
"الذي لا يذكر فيه غير الغزالي والجويني" وكذا في
"فصله" يتبأر حول الملة من زوايا ثلاث: من زاوية المخاطبين بها، ومن
زاوية طرق المخاطبة التي سلكها واضع الملة في التبليغ، ومن زاوية المقصود الذي
تغياه واضع الملة من مخاطبة من خاطبهم([32]).
درءا لمفسدة
التطويل، يمثل الثالوث السابق بنية متمفصلة لا يفهم العنصر الواحد منها إلا
باستحضار صنويه الآخرين، فلما كان الشرع قد فيأ الناس إلى قسمين: علماء وجمهور([33])،
جاعلا لكل قسم مقصدا إزاءه، غاية الجمهور في امتثاله للملة هي العمل باتباع
الظواهر، أما العلماء ففضلا عن ذلك مطالبون بالفحص العلمي عن المعاني العميقة، على
اعتبار أن الشرع يصرح للجمهور دون إغفال تنبيه الخواص، ولما كان الشرع مقصوده
الأول العناية بالأكثرية من الناس كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق
المشتركة الخطابية([34])،
التي تضم التمثيل بأنواعه المختلفة (قياس المساواة والأدنى والأولى) وضرب المثل
لبساطتها وتجذرها في بنية اللغة الطبيعية. إن انقسام الشرع إلى باطن وظاهر يعزى
إلى اختلاف طبائع الناس في التصديق (هناك من يصدق بالبرهان، وهناك من يصدق
بالمثال). لذا وجب محاكمة المعاني المصرح بها بمعيار مطابقتها للمعاني التي تم
التنبيه عليها: "يكون المعنى الملي مطابقا للمعنى الحكمي إذا كان المعنى الذي
صرح به هو بعينه المعنى الموجود بنفسه"([35]).
وإذا كان المعنى الملي غير مطابق للمعنى الحكمي عد المصرح به ممثلا للمعنى الفلسفي([36])،
ولا غرو في ذلك "فالحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"([37]).
إن فيصل
التفرقة بين الخاصة والعامة هو البرهان الفلسفي المفضي إلى اليقين، لكن من الناحية
الواقعية توجد فئة ثالثة (أهل الغربة عن الحق)، هي الفئة المتكلمة والتي لم يجد ابن
رشد غضاضة أو حرجا في التوهين من شأن خدمتها للعقيدة الدينية منهجا ومضمونا؛
فقضاياها بدع ظاهر كذبها، ومفسدة لعقائد الجمهور، بل وأدت إلى شنآن وتباغض وحروب
وتمزيق الشرع، وتفريق الناس كل التفريق([38]).
أما منهجها فغير صالح للجمهور ولا للخاصة، وغير يقيني يخل بمبادئ العقل كما يخل
بالشرع ويقوله ما لا يقول([39]).
(طريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية).
واضح إذن أن
الصناعة الكلامية متهافتة في مضمونها وفي أسلوبها، فأهل الكلام قصروا عن الحكمة
الحق "ولم يجاوزوا في أحسن الأحوال عتبة مستوى المشهور والمقبول مضمونا،
ومستوى الجدل منهجا"([40])،
وحتى تستقيم فعاليتها التفاوضية اللغوية المتجسدة في مواد دينية وجب إردافها
وإرفادها بالأداة الجدلية والخطابية المفيدتين في ميدان العمل والرأي([41])،
وبما أنه قد كان لأحدهم أرسطو فضل كشفها وصياغتها في الماضي، فما على
اللاحقين إلا الضرب بأيديهم في كتبه (الأورغالون) ([42])،
"فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي
الحكمة ؟"([43]).
وهكذا يتضح
بما لا مزيد عليه أن تمييز فلاسفة الإسلام في الشريعة الإسلامية بين درجتي التنبيه
والتصريح كان لغاية موضعة علم الكلام في إطاره الحقيقي لإيجاد منفذ منه يعبرون إلى
تسويغ استنبات المعقولات الفلسفية في تربة إسلامية من خلال بوابة المنطق (البرهان
والجدل والخطابة)، مما نتأدى معه إلى أن مشروع التبيئة هذا جرى بطريق التورية
والإضمار، ولا أدل على ذلك من التناقض الجاثم في معظم كتاباتهم التي تفصح عن ظاهرة
الازدواجية في الآراء، وبغض النظر عن التصورات التي تدلل على ذلك (الفارابي
مثلا تارة يدافع عن السعادة المثالية في الإحصاء، وطورا آخر يحتفي بالسعادة
المادية المحسوسة في كتاب شرح الأخلاق إلى نيقوماخوس"، فإن التناقض
الحاصل له أسبابه الموضوعية المتمثلة أساسا في حصار السلطة السياسية وهيمنة السلطة
الشعبية المكتنزة بالتمثلات والمفارقات([44])،
وتبعا لذلك، قد تكون الكتابة المزدوجة(*) (وهي حصار لحصار السلطتين السياسية والشعبية)
"تناقضا مشروعا، وتراجعا مبررا وتقية متحايلة وضرورية، ودرعا واقيا من سيف ذي
حدين: حد الجماهير من جهة، وحد السلطان الجائر الممالئ لها في الإبستيمي الوسطوي
من جهة أخرى"([45]).
:الهوامش
[1]- محمد أيت حمو، ابن خلدون بين نقد
الفلسفة والانفتاح على التصوف، ، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان،
الطبعة 1، نونبر 2010. ص: 64.
[2]
- أحمد العلمي حمدان، الكلام كجنس دراسة لذاتيات الكلام من زوايا
مباحث متعددة، منشورات ما بعد الحداثة، الطبعة الأولى 2007 ، ص: 18.
[4]
- محمد أيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، من التأسيس
البرهاني للسياسة إلى التأسيس الحجاجي، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة
1، 2011، ص: 40.
[5] - ابن خلدون، المقدمة، تحقيق خليل
شهادة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2007م، ص: 467.
[7]
- محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، دراسات ومراجعات
نقدية للكلام، دار الفارابي، بيروت لبنان، ومنشورات الاختلاف، الطبعة 1، 2011. ص:
68.
* - رغم قول الجبرية بالجبر الديني، فإنها ناهضت الجبر
السياسي الأموي، والدليل على ذلك هو أن الجهم سقط وهو يحارب بني أمية.
[9] - أبو الوليد بن
رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، أو نقد علم الكلام ضدا على الترسيم
الإيديولوجي للعقيدة ودفاعا عن العلم وحرية الاختيار في الفكر والعمل، مع مدخل
ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة
العربية، الطبعة الثالثة تموز- يوليوز، 2007، ص: 15.
** - تعد الناقدة البلغارية J.Kristeva أول مستعملة ومبلورة لمفهوم التناص (Intertextualité) في النقد الحديث في النصف الثاني
من القرن 20، وإن كان M.Bakhtine قد سبقها إلى إثارة مسألة تداخل
النصوص، وذلك من خلال ما كان يسميه بتعدد الأصوات Polyphonie والحوارية Dialogisme.
[11]
- علي الشابي، مباحث في علم الكلام والفلسفة، دار المدار الإسلامي،
الطبعة الأولى، مارس 2002. ص: 5.
[15]
- حمو النقاري، منطق الكلام، من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق
الحجاجي الأصولي، منشورات الاختلاف، طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون، الأولى،
1431هـ، 2010م.، ص: 68.
* - حدث ذلك عقب مناظرة بينه وبين أستاذه أبي علي الجبائي:
قال الأشعري لأستاذه: "أيها الشيخ، ما قولك في ثلاثة: مؤمن وكافر وصبي
؟..." وواضح أن ما يراد إبطاله في هذه المناظرة هو بطلان قول المعتزلة بحرية
الإرادة الإنسانية وأن الله لا يفعل إلا الصلاح، ابن رشد، الكشف، مرجع سابق، ص:
25.
*
- حكمه عليها بالفساد والبطلان (القسم الإلهي منها) لم
يمنعه من الدعوة إلى جني ثمارها شريطة التسلح بسلاح الشرع. محمد أيت حمو، ابن
خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف، مرجع سابق
ص: 30. وصاحب العمران البشري هنا يستعيد موقف الغزالي في تهافته، إذن فقد
"كان لموقفه من الفلسفة المقلدة لليونان دور كسر بينه وبين ابن رشد الذي أله
أرسطو، في الوقت الذي كان فيه عامل جبر بينه وبين الغزالي الذي أنسن أرسطو الإنسان
وأنزله منزلته بكل مالها (المنطق) وما عليها (الإلهيات)". المرجع نفسه، ص:
48.
[21] - محمد عابد الجابري، التراث
والحداثة، دراسات.. ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت،
أيار/مايو 2006، ص: 188.
[24]
- محمد أيت حمو، "ابن حزم فارس الحجاج في الغرب
الإسلامي"، ضمن التحاجج: طبيعته، مجالاته وظائفه وضوابطه، تنسيق حمو النقاري،
سلسلة ندوات ومنظرات رقم 134، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة
النجاح الجديدة، البيضاء، الطبعة الأولى، 1427هـ/2006.، من الصفحة: 123 إلى ص:
146.
[27] - الفارابي، المنطق عند الفارابي،
تحقيق وتقديم وتعليق، د. رفيق العجم. كتاب الجدل مع شرح على التوطئة والفصول
الخمسة وإيساغوجي والمقولات والعبارة والتحليلات والتعليق عليها. دار المشرق،
بيروت، 1986، ص: 70.
* - اندراج علم تحت آخر يكون بوجهين: براهينه غير معطاة فيه
بل في علم آخر غيره كالفيزياء في علاقتها بالرياضيات، أو إذا كان العلم الذي يشتمل
على الكليات هو الذي يعطي أسباب الجزئيات التي تحته. المرجع نفسه، ص ص: 86-87.
[34] - ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما
بين الشريعة والحكمة من الاتصال أو وجوب النظر العقلي وحدود التأويل (الدين
والمجتمع) مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع، د. محمد عابد الجابري، مركز
دراسات الوحدة العربية، الطبعة 4، بيروت، أبريل 2007، ص: 117.
[39]
- طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي
العربي، الطبعة 3، 2007.، ص: 150.
[44] - محمد أيت حمو، "الكتابة
المزدوجة عند الفلاسفة المسلمين". http//www.el.jabriabed.net. روقب يومه 14/01/2012.
* - نستثني هنا ما قام به ابن رشد في شروحاته على أرسطو من
إضافات وتعديلات واستدراكات حسب درجة تطوره المعرفي، وظاهرة المراجعة تخص بالذات
جوامعه وتلاخيصه دون غيرها. وهذا الاستثناء لا يجعلنا نغفل ازدواجية أفكاره بين
الشروح والثالوث النقدي. جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، دار توبقال للنشر، ط1،
1986، ص: 154.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية