الكانطية الجديدة
ا.د. ابراهيم طلبه سلكها
رئيس قسم الفلسفة - كلية الاداب - جامعة طنطا - مصر
رئيس قسم الفلسفة - كلية الاداب - جامعة طنطا - مصر
يطلق مصطلح " الكانطية الجديدة " على تلك الاتجاهات
الفلسفية التى تنادى بالعودة إلى روح فلسفة كانط .. وكان أوتوليبمان Otto
Liebmann(1840-1912) أول من رفع شعار " العودة إلى كان " Bak to Kant فى
كتابه " كانط والمقلدون " الذى نشر عام 1865 .(8) فكل فصل فى
هذا الكتاب ينتهى بقوله : " لذلك فمن الضرورى العودة إلى كانط ثانية " .
ولقد ظهرت الخطوة الثانية عند فردريش ألبرت لانجة Feiedrich Albert langa
(1828-1875) فى كتابه المشهور " تاريخ المادية " History of Materialism .
ولقد ظهرت الحركات الفلسفية المختلفة للكانطية الجديدة بصفة
خاصة فى ألمانيا فى الفترة من سنة 1870 إلى سنة 1920م ومن أبرز هذه الحركات
الفلسفية :
1- المدرسة الفيزيولوجية : Physiological School عند هرمان فون هلمولتنز Herman von Helmoltz
(1821-1894) وفردريش ألبرت لانجه .
2-
المدرسة الواقعية : Realist school عند ألوئيس ريل Alois Riehl (1844-1924) .
3-
مدرسة كوتنجن : Gottingen school عند
ليونارد نيلسون Leonard Nelson (1882-1927) الذى اتبع أفكار ياكوب
فريز Jacob
Fries (1773-1843) .
4-
المدرسة النسبية : Relativist school أو
السيكولوجية عند جورج زمل Georg Simmel (1853-1918) .
5-
مدرسة ماربورج : Marburg school .
6-
مدرسة بادن : Baden school .
7-
المدرسة الميتافيزيقية عند أوتوليبمان ويوهانش فولكت
(1848-1930) التى قالت بإمكان قيام ميتافيزيقا نقدية .
والجدير بالذكر أننا نجد أنصار ومؤيدين للحركة الكانطية
الجديدة لا فى ألمانيا فحسب بل فى خارجها أيضا ، فنجد حركة كانطية جديدة تظهر فى
فرنسا ويمثلها رينوفييه Renovvier ونجد حركة كانطية جديدة تظهر فى
إيطاليا ويمثلها كل من روزمينى Rosmini وجيوبرتى Giobert وفيورنتينو Fiorentino وتوكو Tocco وماسكى Masci وشيابلى Chiappelli ، ونجد حركة كانطية جديدة تظهر فى
روسيا ويمثلها كل من ففيندنسكبى Vvdenstky وشيلبانوف Chelpanov .
وقد وقفت الاتجاهات الكانطية الجديدة فى مواجهة المذاهب
الميتافيزيقية التقليدية وكانت تؤمن بأن الفلسفة يمكنها أن تكتسب صفات العلم
" إن هى سايرت منهج كانط النقدى " . وعلى هذا فقد كان ظهور الكانطية
الجديدة تجسيدا لما تنبأ به كانط من أن فكره سوف يأتى أكله خلال مائة عام .
ويمكن القول - بوجه عام - أن الكانطيين الجدد يشتركون جميعا
فى عدة مفاهيم توحد بينهم :
1- أنهم ينتسبون جميعا إلى
كانط الذى هو فى أعينهم أعظم الفلاسفة وهو عندهم المفكر بألف ولام التعريف للثقافة
الغربية الحديثة . وهكذا فإنهم جميعا يقبلون مجموعة كثيرة من مواقفه الأساسية .
فهم يرفضون المنهج النفسى ويرفضون الميتافيزيقا ويرون أن الميتافيزيقا تبدو
مستحيلة وغير ممكنة ، بينما المنهج النفسى وكل منهج تجريبى على العموم ينبغى أن
يحل محله فى الفلسفة المنهج الترانسندنتالى . ويرى هذا المنهج أن الفلسفة تنحصر فى
جوهرها فى تحليل الشروط المنطقية للمعرفة والإرادة.
2-
أنهم جميعا مثل كانط " تصوريون " أى أنهم ينكرون
على النحو الذى يرتضيه وحسب تنوعات المدارس وجود الحدس العقلى . وما العقل عندهم
إلا ملكة تكوين الكل ابتداء من عناصره وهو لا يحوز قدرة غير قدرة التركيب . وعلى
هذا فلا توجد معرفة لمضمون الأشياء ولا الجوهر والاستثناء الوحيد من هذا الإجماع
هو حالة " لاسك" حيث وقع تحت تأثير الحركة الفينومينولوجية .
3-
أنهم جميعا مثاليون فى نظرية المعرفة ، ففعل المعرفة لا يقوم
فى عملية إدراك للموضوع ، بل فى خلق الموضوع ، وكما يقولون " إن الموجود لا
يوجد فى ذاته ، إنما الفكر وحده هو الذى ينشئه " .
4-
أنهم يشتركون فى إحياء الفلسفة وإنقاذ الوعى الأوربى من
المذهب التجريبى والتأويلات الوضعية لكانط عن طريق العودة إلى أفلاطون وقراءة كانط
من خلاله ، وتغليب الجانب القبلى اللاتجريبى اللانفسى النقدى فى فلسفة كانط ،
وتأسيس الفلسفة على الفكر الخالص كما أسسها كانط على الأفلاطونية ، والبحث عن
المنطقى والقبلى المستقل عن التجربة فى شتى العلوم الإنسانية فى الجمال والأخلاق
وعلم النفس والقانون والاجتماع والتاريخ . واعتبروا الشىء فى ذاته تصورا محددا
مستقلا عن العقل ، أما عالم الظاهر فإنه عالم واقعى هو عالم الأفكار ، وعلى هذا
النحو اعتبرت الكانطية الجديدة إحدى صور المثالية .
5-
ومن أبرز مدارس الكانطية الجديدة شهرة وتأثيرا على أورتيجا
مدرسة ماربورج ومدرسة بادن .. والحق أن دعوة العودة إلى كانط التى رفعها ليبمان
ترددت بصفة خاصة لدى مجموعة من فلاسفة هاتين المدرستين ومنهم هرمان كوهين Herman
Cohen ، وباول ناتورب paul Natorp ، فلهلم فيندلباند Vilhelm
Veindlband وهنريش ريكرت Heinrich
Rickert فى الفترة من سنة 1870 وحتى سنة 192م . ولقد توافق المناخ الكانطى
الجديد لهذه المدارس مع رد الفعل الفلسفى العام فى ألمانيا ضد تقليد التأمل النسقى
للمثالية والاتجاهات الميتاعلمية Meta-scientific
للنزعة الطبيعية والعلوم الطبيعية .
ولقد تأسست مدرسة ماربورج على يد كل من كوهين وباول ناتورب
وكانت هذه المدرسة مرتبطة أساسا بفلسفة العلم واستخدام مناهج المنطق
الترانسندنتالى لكانط . وقد عمل كل من كوهين وناتورب أستاذًا للفلسفة فى ماربورج
فى الفترة من سنة 1885 وحتى سنة 1912م ، وأكدا أهمية دراسة كانط وتبنى الموقف
العام لفلسفته وذلك خلال بحثهما فى الخلافات الأبستمولوجية والمنهجية بين العلوم
الطبيعية والعلوم الاجتماعية .
كان هرمان كوهين (1842-1918) من أبرز الكانطيين الجدد ، وكان
أستاذا لأورتيجا ، ومن أهم مؤلفاته " نسق الفلسفة – منطق المعرفة الخالص
" System of philosophy Logic of pur knowledge" وهو الذى أعطى لمدرسة ماربروج
أساسها النظرى بتفسيره المثالى للتصورات الموضوعية العلمية والمقولات الفلسفية على
أنها بناءات منطقية . وطبق ناتورب المنهج الترانسندنتالى لتفسير أفلاطون وعلم
النفس ومناهج البحث فى العلوم الدقيقة . وطبق آرنست كاسيير آراء مدرسة ماربورج فى
تاريخ المعرفة وتاريخ الفلسفة ، وهاجم الفكرة القائلة بأن المجردات العلمية انعكاس
للواقع ، وأحال الواقع المادى إلى مقولات الفكر الخالص واستبدل بقوانينه مقولات
مثالية ، فالإدراك المعرفى نوع من التفكير الرمزى . ودرس المعرفة العلمية وتاريخ
الفلسفة الحديثة واعتبره تقدما مستمرا للصياغات العلمية المختلفة.
ولقد حاول كوهين خلال موقفه المنطقى والترانسندنتالى أن يفند
التفسيرات السيكوفيزيقية الطبيعية Naturalist psychophysical
للواقع المحسوس وتقدم الوعى الإنسانى فى الفلسفة الكانطية الجديدة عند بعض
المفكرين الألمان أثناء هذه الفترة (1885-1912) وخاصة عند هلمهولتز ولانجة .
والنزعة الطبيعية بهذا الصدد هى وجهة النظر التى تصرح بأن المعرفة والوعى يعتمدان
على الخصائص المادية للطبيعة . وفى عام 1890 كانت وجهة النظر هذه انعكاسا للفلسفة
الميتافيزيقية التأملية والمثالية الذاتية Subjective idealism
خاصة .
وكان هلمهولتز أحد العلماء البارزين فى ألمانيا .. وقد اهتم
بالدراسات السيكولوجية والأبستمولوجية والعلمية عن المكان والزمان وقدم نظرية
تجريبية عن الحسى والإدراك .. وكان من أنصار الاتجاه العلمى القائل بوجود قوى
نوعية لأعصاب الحس ثم قادة هذا الاتجاه إلى القول بذاتية الصفات الحسية ووصل إلى
النتيجة القائلة بأن تصور المكان إنما يتوقف على تكويننا الجسمى . وترتب على ذلك
أن درس هلمهولتز إمكانية وجود أكثر من تصور واحد للمكان وبالتالى إمكانية ظهور
هندسات أخرى غير إقليدية تلتقى كل واحدة منها مع مجموعة خاصة من أعصاب الحس التى
زود بها الكائن الإنسانى . بيد أن هلمهولتز يؤكد فى النهاية أن هذه التصورات
الهندسية المتعددة لا يتطابق أى منها بالضرورة مع البناء الواقعى للعالم . وقد
اعترف هلمهولتز بفضل الفلسفة الكانطية ووجه الانتباه إلى فائدة "العودة إلى
كانط " بالنسبة للأبحاث العلمية .
وحذا لانجه حذو هلمهولتز حيث اعتقد أن معرفتنا عن الواقع
المحسوس هى حصيلة ذلك التفاعل بين الكيان العضوى الإنسانى وبين أى واقع آخر يمكن
أن يكون غير معروف . وتجربة عالم الموضوعات الفيزيائية ( العالم المحسوس ) تتحدد
بواسطة هذا التفاعل بين البشر، بيد أن الكيان العضوى للإنسان ذاته هو فقط موضوع
التجربة ويمكن فهمه بواسطة علم النفس والفسيولوجيا .
ولقد رفض كوهين التفسيرات السيكولوجية عند هلمهولتز ولانجه
وأخذ عليهما ما زعماه من أن الفلسفة ينبغى أن تبدأ بتحليل الوعى فتكشف عن تطبيق
مقولات الفكر على معطيات الحس وما يتبع ذلك من تكوين عالم للظواهر يختلف عن "
عالم الشىء فى ذاته " . فالفلسفة عند كوهين لا ينبغى أن تنشغل بدراسة عمليات
سيكولوجية تصل من خلالها إلى نتائج ظنية ، بل إنها تنشغل بالاحرى بالمعرفة العلمية
ذاتها .
ومن الملاحظ أن فكرة بارميندس الذاهبة إلى أن " التفكير Thinking والوجود Being هما شئ واحد" موجودة عند كوهين فى
منطقة ، فعنده لا توجد فجوة بين الفكر Thought والواقع Reality حيث إن الفكر هو جوهر العلم والواقع وأساسهما.
وأقام كوهين منطقه على "مبدأ الأصل" The Principle of origin ..
واعتقد أن منطق حساب التفاضل والفيزياء الرياضية هو أفضل ما يزودنا بإمكانية معرفة
المبادئ الأساسية لواقع الأشياء التجريبية وفهمها وأن العلم النيوتونى أثبت
إمكانية المعرفة القبلية للطبيعة والأشياء الفيزيقية عن طريق المفاهيم الرياضية
للمكان والزمان .
والمنطق عند كوهين ليس سيكولوجيا وليس صوريا بحتا لأنه يفترض
دائما وجود معطيات مصدرها الإدراك أو حتى الحدس الخالص . المنطق عنده ليس فكرا
فارغا كما أن أى حكم تقريرى لا معنى لصدقه إلا بالنسبة إلى موقعه داخل نسق من
القوانين الكلية تستند بدورها إلى أسس منهجية . إذن صورة الفكر لا تنفصل عن مضمونه
، وهذا المضمون ليس شيئا آخر سوى الواقع باعتباره موضوعا وهدفا لها ، وتقدم
المعرفة يعنى نمو الفكر عن معطياته كما ارتأى كانط . ولا مجال للنظر إلى الأعداد
باعتبارها مادة خام تفرض من الخارج ، فقد تعلم كوهين من حساب التفاضل والتكامل أن
الأعداد اللامتناهية لا وجود لها أساسا كمعطيات خارجية بل هى على الأحرى من خلق
الفكر .
إذن وقائع العلم عند كوهين تتحدد بالفكر ، لذلك فإن "
الأشياء فى ذاتها "– themselves Things in بالنسبة له ليست أشياء كما هى وكما تعرف بالمنطق وبالفيزياء
الرياضية .. ونقد كوهين فى أعماله فكرة كانط عن
" المعطيات المستقلة " لمقولات
" الأشياء فى ذاتها " وقوانينها واكتفى بأن الخاصية اللازمة
للطبيعة تستمد من المنطق الرياضى للفكر الخالص وتكون مستقلة عن إدارك الحواس وحاول
كوهين عن طريق " المنهج الترانسندنتالى " أن يحطم الحاجز الذى أقامه
كانط بين المعرفة القبلية والمعرفة التجريبية أو البعدية بالتمييز بين الإحساس
باعتباره مستقلا والفهم باعتباره فعالية تلقائية.
وهكذا نجد أن الكانطية الجديدة عند كوهين لم تكن فقط عودة إلى
كانط بل إنها قد تجاوزته أيضا ، وقد رفض كوهين فى تجاوزه لكانط التصور الخاص بعالم
النيومينا أى عالم الشىء فى ذاته وتجاوز " عالم الفنومينا " أى عالم
الظواهر . وذهب إلى أن قوانين الطبيعة لا يمكن أن تفهم باعتبارها مقولات يستطيع
العقل عن طريقها أن ينظم المعطيات الحسية Sense- Data التى يتلقاها . والأصح أن فهم القوانين
يستمد من عالم الفكر الخالص وحده بعيدا عن المعطيات الحسية الخام . وفى هذا العرض
يبدو لنا كوهين فيلسوفا مثاليا وأكثر راديكالية من كانط .
أما باول ناتورب (1854-1924) فقد كان من أبرز مفكرى الجيل
الثانى بمدرسة ماربوج . اهتم بأحدث ما ظهر من اكتشافات فى العلوم وخاصة نظرية
النسبية فى كتابه
" الأسس المنطقية للعلوم الدقيقة " . وقد حاول ناتورب أن يملأ الفراغ الذى تركه كوهين بين العلم كواقعة معرفية قائمة وبين الوعى الفردى الذى كون هذه المعرفة مخالفا بذلك لزميله كوهين . واستطاع – فى علم النفس – أن يصل إلى نتائج تماثل النتائج التى وصل إليها دلتاى.
" الأسس المنطقية للعلوم الدقيقة " . وقد حاول ناتورب أن يملأ الفراغ الذى تركه كوهين بين العلم كواقعة معرفية قائمة وبين الوعى الفردى الذى كون هذه المعرفة مخالفا بذلك لزميله كوهين . واستطاع – فى علم النفس – أن يصل إلى نتائج تماثل النتائج التى وصل إليها دلتاى.
" وقد رأى البعض أن ناتورب بحرصه على تحقيق التقارب بين
الموضوعى والذاتى ، إنما يحقق الوحدة الفكرية والمنهجية للفلسفة بوجه عام ، فقد
كان ناتورب بحق من أكثر المتحمسين للمنهج بمدرسة ماربورج ، يقول ناتورب : "
لقد فهمنا من قراءتنا لكانط أن الذاتية لا تظهر إلا مع الموضوعية فهى ترتبط معها
بعلاقة وثيقة بالإضافة إلى أن كلتيهما تنبثق عن أسس لا نقول إنها ذاتية أو موضوعية
لأنها تتجاوز هذا الاختلاف ".
ونلاحظ من ناحية أخرى أن ناتورب قد فسر الأفلاطونية تفسيرا
جديدا ووضع دراسات خاصة عن المشكلات البيداجوجية Pedagogical Problems
والسيكولوجية .
وإذا انتقلنا إلى الاتجاه الآخر للكانطيين الجدد وهو اتجاه
" مدرسة بادن" لوجدنا أن أتباعها وخاصة فيندلباند وريكرت كانوا يركزون
على دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية باعتبارها دراسات تاريخية أو دراسات
ثقافية Cultural Studies كما اهتموا بجانب القيم المختلفة .
فلهم فيندلباند (1848-1915) هو أحد مؤرخى الفلسفة الأكثر شهرة
وكان من أكثر المتحمسين للفيلسوف كانط ولرغبته فى إحداث تقدم فى الفلسفة مماثل
لتقدم العلوم ، وهو صاحب التساؤل الشهير : كيف يتسنى لنا أن يكون فهمنا لكانط
دقيقا بحيث نجرؤ على تجاوزه؟.
وفى المحاضرة التى ألقاها فيندلباند عام 1894 فى جامعة
ستراسبورج Universtity of Etrasbourg عن " التاريخ والعلم الطبيعى " قدم
بحثا فى الأبستمولوجيا يتسم برؤية كانطية جديدة حيث ميز بين المعرفة المستمدة من
العلوم الطبيعية والمعرفة المستمدة من الدراسات التاريخية أو العلوم الثقافية .
ولقد عدل فينندلباند عن وجهة النظر التى ترى الواقع كفكر خالص والتى نجدها عند
كوهين ومدرسة ماربورج وذلك بفكرته القائلة بأن المشكلة الأبستمولوجية للواقع
التجريبى هى مشكلة فى القيم وليست مشكلة منطقية .. وكان فيندلباند أكثر ارتباطا
بمسائل القيم من مشكلات المنطق كما وجه اهتمامه إلى التمييز بين العلوم الطبيعية
والدراسات التاريخية .(29) التمييز بين علوم " واضعة للقوانين " وبين "علوم
مصورة للأفكار " ، العلوم الطبيعية واضعة قوانين لأنها تهدف إلى صياغة قوانين
عامة أما العلوم الإنسانية ولها مناهج مختلفة فهى " مصورة أفكار " ومنها
علم التاريخ ، العلوم واضعة القوانين تدرس ما يتكرر على نمط واحد بينما العلوم
مصورة الأفكار كالتاريخ مثلا فإنها تدرس ما حدث مرة ولا يحدث ثانية . وإذا نظرنا
كيف يفكر كل من العالم والمؤرخ لوجدنا العالم يهدف إلى المعرفة ، هذه غاية العلم ،
أما المؤرخ فيسعى إلى التقييم ومن ثم يمكن أن يعد التاريخ من علوم القيم ،
فالأحكام الأخلاقية التى يصدرها المؤرخون والتى تشكل ما يعرف باسم " حكم
التاريخ " تجعل هذا العلم قريبا من علم الأخلاق .
كما ذهب فيندلباند إلى أن العلوم التجريبية فى معرفتها للواقع
إنما تهتم بالعام الذى يظهر فى صورة قانون طبيعى أو الفردى الذى يتحدد من زاوية
تاريخية معينة إذن تهتم بالصورة العامة لواقع يتصف بالثبات كما تهتم بالمضمون الذى
يتحدد فى أفراد الواقع ويتميز فيه كل فرد عن الآخر ، والعلوم التى تهتم بالكشف عن
الصور العامة هى علوم تبحث عن قوانين أما النوع الثانى من العلوم فهى التى تهتم
بالأحداث المفردة . الأولى تنصب على ما يتصف بالدوام ، والثانية تهتم بما حدث لمرة
واحدة ، الأولى باحثة عن قوانين ، والثانية تصف الحالات الفردية.
أما ريكرت فإنه شارك فيندلباند فى رؤيته لأهمية معيار القيم
والمعانى وفكرة التمييز بين المعرفة العلمية الطبيعية وبين المعرفة التاريخية ..
ورأى أن العلوم الثقافية أو الدراسات التاريخية تبحث وتلاحظ ما هو فردى فى الواقع
ولا يكون متضمنا فى المبادئ العامة . والمعرفة التاريخية لا تهدف إلى بلوغ
المفاهيم العامة للأشياء بل تتعلق بالتصور الفردى الوحدوى لها .. ولقد حذا ريكرت
حذو فيندلباند حيث اعتقد أن الاختلافات الأساسية بين التاريخ " العلوم الثقافية
" أو الدراسات التاريخية وبين العلوم الطبيعية تكون فى المنهج ، فبينما تهدف
العلوم الطبيعية إلى اكتشاف القوانين فإن العلوم الثقافية بالمناهج المقارنة تدرس الظواهر
الاجتماعية والإنسانية وتحللها تحت تأثير الاستطيقا والقيم الفكرية والأخلاقية .
كما تابع ريكرت فيندلباند فى تأويله وتفسيره للمقولات الكانطية فى ضوء نظرية القيم
وفى تفرقته بين العلم والتاريخ .
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية