شاعرات قيان
الشاعرة القينة =عنان الناطفية
بقلم : ليلى الدردوري
مهداة الى روح الباحثة السوسيولوجية المغربية الراحلة= فاطمة المرنيسي
لم يكن الشعر النسائي في المجتمع العباسي مقصورا على النساء الحرائر دون القيان، فقد غص ذلك المجتمع بالكثير من الجواري اللاتي سكن القصور، واستولين في كثير من الحالات على قلوب أصحاب القصور أنفسهم ، و إذا كانت أساليب القيان في الإستيلاء على إعجاب مواليهن قد قامت في وقت ما على ما تملكه الجارية من لباقة و حسن و إظهار أسباب الدلال ، ثم أضيف إلى ذلك عزف بارع، و صوت حسن، و غناء متقن آخاذ ، فإن الأمر ما لبث أن تطور فأصبح القيانون يحرصون على أن يعدوا جواريهم إعدادا أدبيا ، و يخرجوهن في اللغة ، و يدربوهن على قول الشعر، فنبغ من بينهن القينات الشاعرات الموهوبات، و بعض أولئك جمعهن إلى جانب إجادة الشعر عذوبة الصوت ، و إتقان العزف ، و براعة الضرب و حسن الأداء مع جمال وافر ،و بديهة حاضرة ،و نكتة سريعة.
و لقد وجد عدد غير قليل من هؤلاء الشاعرات القيان اللاتي فرضن أنفسهن على بغداد ، فشغلن الناس فيها ، ابتداء من الخليفة في قصره.
و بسرعة غريبة تسلقن مراقي سلم المجتمع و أصبحن صاحبات منتديات في دورهن يؤمها الوزراء و الرؤساء و القادة و الشعراء، و أصبحت الواحدة منهن أملا كبيرا لهذا الوزير أو ذلك الرئيس أو ذياك الشاعر، يرضى منه بنظرة، ويقنع منها بتحية.
ولعل أشهر من شغل المجتمع العباسي من هؤلاء القيان (عنان) جارية الناطفي أو النطاف و(فضل) جارية المتوكل، و (عريب) التي عرفت باسم (عريب المأمونية ) لشدة تعلق المأمون بها. توفيت عنان الناطفية سنة ۲۲٦ ه، وهي من أشهر جواري زمانها لفصاحتها وبلاغتها وسرعة بديهيتها، وحدة خاطرها، يروى أن مولاها الناطفي كان يجمع لها الشعراء في بيته فتتناشد معهم، الشعرالجيد .
شغلت مجتمع الأدباء والشعراء في بغداد على عصر هارون الرشيد مثل أبي نواس، ودعبل الخزاعي، ومروان بن أبي حفصة، والعباس بن الأحنف، واليزيد الحميري مؤدب المأمون، وأبي النضير شاعر البرامكة، والشاعر أبي زهير رزين العروضي نزيل بغداد، فضلا عن بعض الشعراء الأعراب الذين كانت المصادفات تلقي بهم في ناديها لمطارحتها الشعر بل لقد كان على رأس هؤلاء جميعا الخليفة نفسه الذي هم بشرائها من صاحبها ذات يوم ثم رأى أن يرجع عن قوله ثم ما لبث أن اشتراها بعد عدة أعوام تبعا لبعض الروايات بعد وفاة مولاها الناطفي.
ولقد كانت عنان جديرة بأن تشغل مثل ذلك المجتمع الذي كان الشعر والموسيقى يشكل بعض سماته، وكانت هي باستعدادها الفطري من ذكاء وموهبة، وطبيعتها الأنثوية من جمال وشباب ، أن يلفت إليها الأنظار. ويروى أنها شجعت دعبل الخزاعي وأبا نواس وأبا النضير على أن يطرحوا عليها أبياتا من الشعر ويطلبون إليها أن تقطعها في تفعيلات عروضية، وهي بعد ذلك تستطيع أن تجيز أي بيت من الشعر مهما كانت جودته، ومهما كان قائله، بشعر إن لم يفقه طرافة معنى أو براعة صياغة فإنه لا يقصر دونه، ثم هي بعد ذلك لها من أصالة القول ما يجعلها تقول شعرا جزلا، تستطيع أن تواجه به الفحول من الشعراء من غير ما تردد أو وجل، فقد هجت أبا نواس بأبيات موجعة سلكت فيها مذهب بشار منها:
مت متى شئت فقد ذكرتك في الشعـ ر وجرر أثواب ذيلك فخـــرا
ولقد فعلت ذلك عندما أقحمت العباس بن الأحنف وطارحها يوما ببعض شعره، ومدحت يحيى بن خالد البرمكي بقصيدة يضاهي نهجها وأسلوبها نهج الفحول وأساليبهم، والحق إن بعضا من الشعراء قد نازلوها في هذا الميدان فإذا هي تستولي على مجامع إعجابهم وأحيانا تصرعهم، فقد دخل مروان بن أبي حفصة وهو ذو مكانة في قافلة الشعراء العباسيين بيت الناطفي وقد ضرب الناطفي جاريته عنان، فشهد الشاعر دموعا تنحذر على صفحة وجهها فلم يلبث أن قال:
بكت عنان فجرى دمعهـــــــــــا كالدر قد توبع في خيطـــــــــــه
وإذ بها ترد عليه في الحال والعبرة في حلقها :
فليت من يضربها ظالمـــــــــــــا تجف يمناه على سوطــــــــــــه
فيفزع مروان لهذه العارضة القوية ويقول: "هي والله أشعر الجن والإنس".
ويقع بصر أحد المتأدبين على هذا البيت من الشعر:
ومازال يبكي الحب حتى سمعته تنفس من أحشائه أو تكلمـــــــا
فيقع البيت من نفسه موقع الإعجاب وهو لا يعرف قائله، ويطلب من يجيزه، فلا يجد أحدا، فيذهب إلى عنان وينشدها إياه، فما تلبث أن تقول:
ويبكي فأبكي رحمة لبكائــــــــه إذا ما بكى دمعا بكيت دمــــــــا
ويذكر الشاعر أبو زهير رزين العروضي أنه دخل على عنان، وعندها أعرابي فقالت له: يا عم جاء الله بكا على حاجة، فيقول لها وماهي؟ فتقول: هذا الأعرابي يسألني أن أقول بيتا ليجيزه، وقد عسر علي الابتداء، فابتدئ أنت علي بالقول، فقال أبو زهير:
لقد قل العزاء فعيل صبـــــري غداة حمولهم للبين زمــــــــــت
فقال الأعرابي:
نظرت إلى أواخرها ضحيـــــا وقد رفعوا لها عصبا فرنـــــت
فقالت عنان:
كتمت هواهم في الصدر منــي على أن الدموع علي نمـــــــــت
ويعلق أبو زهير على ذلك فيقول: فكانت عنان أشعرنا، ولعل أطرف مايروى من براعة عنان في إجازه الشعر، أن تغني في مجلس سمر هارون الرشيد أبيات جرير:
إن الذين غدوا بلبـــــك غادروا وشلا بعينك مايزال معينــا
ويطرب الرشيد طربا شديدا، وقد أعجب بالأبيات وبالغناء، ثم يلتفت إلى جلسائه قائلا: هل منكم أحد يجيز هذه الأبيات بمثلهن وله هذه البدرة ويقصد بدرة دنانير، فلم يوفقوا فقالت:
هيجت بالقول الذي قد قلتـــــه داء بقلبي مايزال كمينـــــــــا
وقد أينعت ثمراته في حينهــــا وسقين من ماء الهوى فروينا
كذب الذين تقولوا يا سيــــــدي أن القلوب إذا هوين هوينـــــا
وعنان بعد ذلك شاعرة قديرة متمكنة، إذا ما عالجت صناعة الشعر، أو مارست عمل القصيد، وإن العباس بن الأحنف الشاعر العباسي الكبير كان قد تعلق بها فؤاده فطارحها ذات يوم شعرا،أظهر فيه عشقا وذلا فأجابته قائلة:
من تراه كان أغنــــــــــــــــى منك عن هذا الصــــــــــــدود
لعل وصل لك منـــــــــــــــي فيه إرغام الحســـــــــــــــــود
فاتخذ للهجـــــــــــــــــــــــــر إن شئت فؤادا من حديـــــــــــــــــــــــد
مارأيناك على مــــــــــــــــا كنت تجني بجلــيـــــــــــــــــد
وأما الشعر الذي عمدت فيه عنان إلى انتهاج الأسلوب الجزل مقلدة في ذلك فحول الشعراء فقصيدتها في مدح يحيى بن خالد البرمكي حيث تقول:
نفى النوم من عيني حوك القصائد وآمال نفس همها غير نافــــــد
إذا ما نفى عني الكرى طول ليلة تعوذت منها باسم يحيى بن خالـد
وزير أمير المؤمنين ومن لــــــه فعالان من حمد طريف وتالــــــد
من البرمكيين الذين وجوههـــــم مصابيح يطفي نورها كل واقــــد
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية