إشكالية التراث والحداثة في فكر مصطفى صادق الرافعي([1]) رؤية تحليلية نقدية

نشر بتاريخ 19 شتنبر 2015



جميل أبو العباس زكير بكري
مدرس مساعد، بكلية الآداب، جامعة المنيا
rayanabbass@mu.edu.eg




1. مقدمة: 
            يعيش عالمنا العربي المعاصر، في القرن الواحد والعشرين ومنذ بضعة قرون مضت، حالة من الارتباك والتوتر الشديد بين ثنائيات عديدة تكون مترادفات لمعنى واحد: القديم والجديد، أو التراث والمعاصرة، أو المحافظة والتحديث، أو الجمود والتحرر، أو الرجعية والتقدمية، أو الأنا والآخر، أو المحلي والعالمي، أو التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، وقد ارتبط كل مفهوم من هذه المفاهيم بالآخر، حيث أصبح لا يمكن الحديث عن أحدهما دون الآخر، حتى لم يعد من تمام الأمر الحديث عن التراث في غياب المعاصرة، بشكل أو بآخر، أو العكس.­­­­­
            وقد ظهرت هذه الثنائيات نتيجة لاحتكاك العالم الشرقي عمومًا والعربي على وجه الخصوص بالعالم الغربي، وبخاصة في مطلع القرن التاسع عشر، سواءً بطريق مباشر أو غير مباشر، والذي حمل معه مواجهة حضارية شاملة، كان لابد أن تحدث بعد أن جاءت أوروبا إلى بلادنا حاملة معها كل نواتج نهضتها الحديثة: من علم نظري وثقافة عقلانية وأسلحة متفوقة، ونهم شديد إلى التوسع والسيطرة على أسواق العالم. ومنذ ذلك الحين، أصبح الشغل الشاغل للعقل العربي هو التساؤل عما ينبغي أن يكون عليه موقفه من هذه المواجهة: هل يحتمي بتاريخه وتراثه الماضي، ويتخذ منه درعا أو شرنقة تدفع عنه غوائل التيار الكاسح المتدفق من بلاد غريبة متفوقة، أم يساير التيار الجديد أملا في أن يكون له نصيب في ذلك التقدم المادي والمعنوي، الذي حقق للحضارة الأوروبية تفوقا ساحقا على سائر حضارات العالم القديم؟([2]). ومن هنا ظهر التساؤل عن سبل النهضة بالنسبة للعالم العربي؟، وكيف يمكن للحضارة الشرقية والعربية أن تلحق بركاب الحضارة الغربية؟، وكيف تنهض من عثرتها وكبوتها بعد أن صارت في ذيل الأمم؟
2. التيارات الفكرية المختلفة:
           نجم عن هذه التساؤلات ظهور ثلاثة تيارات فكرية على الساحة العربية؛ التيار الأول وهو التيار السلفي أو التقليدي أو المحافظ([3]) والذي يرى أنه لا سبيل لنهضة الأمة العربية إلا بالرجوع إلى تراثها وماضيها، ذلك التيار الذي يرفع شعارًا فحواه لا يُصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كما ينادي أيضًا بضرورة القطيعة مع كل ما هو تغريبي عصري ضد ما هو تراثي أي ضد الأصالة ومن أنصار هذا الاتجاه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم. أما التيار الثاني، فهو يخالف التيار السابق تمامًا، فهو يدعو إلى نبذ كل ما هو قديم أو رجعي يرى أنه لا يواكب العصر الحالي، عصر العلم والتقدم وهو التيار التغريبي أو التيار العلماني أو تيار الحداثة والمعاصرة([4]) ومن أنصاره سلامة موسى، وطه حسين، وإسماعيل أحمد مظهر، ومحمد أركون وغيرهم. بينما ظهر التيار الثالث بين هذين التيارين السابقين وهو التيار التوفيقي الذي حاول أن يجمع بين ما هو أصيل لا يتنافي والحداثة وما هو حديث لا يتنافى والتراث أو الأصالة. ومن أتباع هذا التيار مصطفى صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد، ومحمد عبده، والأفغاني وغيرهم.
وبالرجوع إلى سؤالنا عن كيفية النهوض بالعالم العربي؟ نجد أن إجابة "الرافعي"-التي سنعرض لها- جاءت ردًا على الاستفتاء الآتي الذي وجهته إحدى المجلات العربية:
أ- هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء، أم هي فوران وقتِّي لا يلبث أن يخمد؟
ب- هل تعتقدون يمكن تضافر هذه الأقطار وتآلفها؟ ومتى؟ وبأي العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟
ج- هل ينبغي لأهل الأقطار العربية اقتباس عناصر المدنية الغربية؟ وبأي قدر؟ وعند أي حد يجب أن يقف هذا الاقتباس، في النُّظُم السياسية الحديثة، وفي الأدب والشعر، وفي العادات الاجتماعية، وفي التربية والتعليم؟([5])
3. نهضة العالم العربي والإسلامي:
          في واقع الأمر، يمكنني القول إن إجابة الرافعي لم تأتِ ردًا على أسئلة الاستفتاء السابق فحسب وإنما جاءت نتاجًا لانتشار المعارك الأدبية والفكرية، والتي كان لها دور رئيسٍ لمشاركة الرافعي في الحديث عن النهضة العربية وعن التراث والحداثة أيضًا، وبخاصة في رده على كتاب "في الشعر الجاهلي" لـ "طه حسين"، وعلى غيره من المفكرين والأدباء الذين نادوا بضرورة نبذ كل ما هو قديم، وأكدوا أنه لا سبيلاً البتة لنهضتنا إلا بقبول الحضارة الغربية بغثها وثمينها بعلومها ودينها وعاداتها وتقاليدها، مما أفزع الرافعي وجعله يتصدى لهذا الفكر المسموم الذي بدأ ينخر في عود الأمة العربية والإسلامية حتى كاد أن يفسد عليها حياتها.
           ومن هنا جاءت إجابته بقوله " إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتة لا يكون من الكلام وفنونه، بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلها، ولن يكون هذا المبدأ كذلك إلا إذا كان قائمًا على أربعة أركان: إرادة قوية، وخُلق عزيز، واستهانة بالحياة، وصبغة خاصة بالأمة. فأما الإرادة القوية فلا تنقُص الشرقيين، وإنما الفضل فيها لساسة الغرب الذين بصَّرونا بأنفسنا إذ وضعونا مع الأمم الأخرى أمام مرآة واحدة وجعلوا يقولون مع ذلك، إننا غير هؤلاء وإن هذا الإنسان الذي فى المرآة غير هذا الفرد الذي فيها".([6])
          إذا أمعنا النظر في قول الرافعي نجده يؤكد أن نهضة أمتنا لا تكون بالكلام فحسب، وأنا أتفق معه في ذلك، وإنما تكون بضرورة العمل والثبات على المبدأ أيضًا، وأن يكون هذا المبدأ هو الوقود الذي يحرك نبض الأمة ويعيد ضخ دماء جديدة في شرايينها حتى تلحق بركب الأمم المتقدمة. كما أنني أتفق معه تأكيده تلك الأركان الأربعة التي لا يكون المبدأ ثابتًا إلا من خلالها، فلابد للأمة من هوية تحدد ملامحها ولابد لتلك الهوية من إرادة قوية تدافع عنها وأخلاق حسنة تحفظها وفَناء مطلق 

من أجلها.

          ولكن إذا تأملنا، واقعنا المعاصر، نجد أن هذه المبادئ العظيمة ذهبت أدراج الرياح، فلم تكن للأمة هوية محددة بل أصبحت هويتها لا شرقية ولا غربية. لقد اندثرت أخلاق الأمة الحقيقية وتلاشت قوتها وانكسرت شوكتها وعِزتها وفقدت عصبيتها الشرقية- العربية والإسلامية في الدفاع عن أصولها، وكل ذلك بسبب أنها لم تخلق إرادتها بنفسها حتى الآن من ناحية، ولأن أمتنا أبت إلا أن تتخذ دور التابع لا المتبوع، دور المقلد لا المبدع، دور تقديس الغرب والنظر إليه باعتباره قبلتنا التي لا سبيل لنهضتنا إلا إذا سبحنا بحمده واتبعناه من ناحية أخرى.
       وهنا يحضرني قول "المسيري"، الذي أتفق معه تمامًا، فيما ذهب إليه من أن المشروع الحضاري العربي والإسلامي دخل طريقًا مسدودًا من البداية حين عرًَف هدفه بأنه "اللحاق بالغرب". فهذا الشعار كان يعني أن يصبح "الآخر" هو الغاية وأن نصبح نحن الوسيلة فنتحول إلى بشر من الدرجة الثالثة في معظم الأحوال ومن الدرجة الثانية في أحسنها (لأن من يصل إلى الدرجة الأولى ينضم "إليهم" بطبيعة الحال). وفي محاولة تحقيق هدف اللحاق هذا كان علينا أن نُسكت إبداعنا ونُسقط قيمنا ونمحو ذاتيتنا ورؤانا بحلوها ومرها، لنتقبل ذاتيتهم ورؤاهم بحلوها ومرها. وتحت شعار الموضوعية أصبحت مهمتنا نقل كل ما يأتي إلينا من الغرب، وبخاصة "آخر صيحة"، ابتداءً بالمدارس الفلسفية وانتهاءً بالسيارات والأزياء، وبذلك سقطنا في شكل من أشكال السلفية الغربية التقدمية ووقعنا ضحية إمبريالية المقولات، أي أن نتبنى مقولات الآخر التحليلية ثم نراكم المعرفة، وننظر للعالم، بل ولأنفسنا، من خلالها([7]).
            وقد سبق "الرافعي" من قبل "المسيري" فيما أكده الأخير سابقًا، وذلك في قول الأول " وهذه مفاسد أوربا كلها تنصب في أخلاق الشرقيين كما تنصب أقذار مدينة كبيرة في نهر صغير عذب؛ فلا الدين بقى فينا أخلاقًا، ولا الأخلاق بقيت فينا دينًا، وأصبحت الميزة الشرقية فاسدة من كل وجوهها في الروح والذوق، ولم يعد لنا شيء يمكن أن يسمى المدنية الشرقية، وأخذ الحمقى والضعفاء منا يحاولون في إصلاحهم أن يؤلِفوا الأمة على خُلقٍ جديد ينتزعونه من المدنية الغربية، ولا يعلمون أن الخُلق الطارئ لا يُرسخ بمقدار ما يُفسد من الأخلاق الراسخة"([8]).
          وهنا نجد "الرافعي" يرفض رفضًا قاطعًا طمس هوية الأمة من خلال السير وراء الغرب على قدم وساق وتقليده تقليدًا أعمى، وله الحق في ذلك، فلا ينبغي للأمة أن تطمس ملامح وجهها من أجل أن ترتدي قناع الغرب المزيف.
        وإذا تساءلنا، كيف للعالم العربي أن يحقق نهضته من وجهة نظر الرافعي؟ نجده يؤكد " أن نهضة الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان: الدين الإسلامى، واللغة العربية([9]).
أ. الدين الإسلامي:
         وفيما يتعلق بالنهوض بالدين الإسلامي نجد الرافعي يؤكد ذلك في قوله " وبالنسبة للركن الأول فإن أغلبية الشرق العربي ومادته العظمى هى التي تدين بالإسلام، وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية ترمي إلى شد المجموع من كل جهة، أي أنها تعضد من التماسك بين أبناء الأمة وتؤلف بين قلوبهم. ومن ناحية أخرى، يرى أن السبب الرئيس لسقوط الحضارات هو سقوط أخلاق الأمة؛ وما يتبعها من أساليب الرفاهية والضعف المتفنن، وما تحدثه للنفس من فنون اللذات والإغراق فيها والاستهتار بها، وما سقطت الدولة الرومانية ولا الدولة العربية إلا بكأس وامرأة ووتر، وخيال شعري يفتن في هذه الثلاثة ويزينه"([10]).
           إنني أتفق معه في قوله إن نهضة العالم العربي لن تتحقق إلا بالنهوض بالدين الإسلامي، إلا أنني أرى أنه لم يوفق في اختزاله الدين الإسلامى في الجانب الأخلاقي فقط، وإن كان أحد الجوانب الأساسية فيه، فثمة جوانب أخرى لا تقل أهمية عن هذا الجانب منها، على سبيل المثال لا الحصر، الجانب العقدي، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي.... وغيرها من الجوانب التي ينبغي على الأمة العربية أن تنهض بها حتى تحقق نهضتها التي تصبو إليها. ومن هنا نستطيع أن نتساءل هل أخفق "الرافعي" وترك مصطلح "الدين الإسلامي" على عمومه ولم يحدد هل يقصد بذلك الدين الإسلامي السُنيِّ أي أهل السنة والجماعة أم الدين الإسلامي الشيعي؟ _ وإن كنت أتحفظ على هذا المسمى لأنني أرى أن الشيعة في ذاتها دين لا يمثل الإسلام وقد جاء قولي هذا مستندًا إلى كتاب "الخطوط العريضة لدين الشيعة" للعلامة المجاهد محب الدين الخطيب، دراسة وتقديم محمد عمارة، الصادر عن مجلة الأزهر 1433هـ، 2012 م، _ وإذا كان يقصد بالدين الإسلامي أهل السنة والجماعة فمن ذا الذي سيكون قائمًا على هذا الدين؟ هل الجماعات الإسلامية المختلفة كالإخوان المسلمون والسلفيين وغيرهم، تلك الجماعات التي تختلف فيما بينها بشكل جزئي في منهج تحقيق سُبل النهضة وطريقتها ، أم مؤسسة إسلامية عريقة كالأزهر مثلاً؟
         لقد أشاد "الرافعي" بدور الأزهر وأكد أنه الوحيد المنوط به نشر رسالة الإسلام السمحة، وأتفق معه في هذا الرأي، وبخاصة وأنه دعا إلى ضرورة وجود رجال من الأزهر يحملون لواء الإسلام المستنير حتى يتولوا مهمة نشره في ربوع العالم، هذا بالإضافة إلى حثه على استرجاع هيبة الأزهر ومكانته الرائدة كما كانت من قبل([11]). ومن ناحية أخرى فإن "الرافعي" لم يحدد الآلية التي ينبغي أن ينهض بها الدين الإسلامي وما هى الخطوات العملية التي ينبغي أن يسير عليها المسلمون في ذلك، أي أنه لم يوضح كيف لنا أن ننهض بالدين الإسلامي ونحكم به في ظل دولة عصرية بها الكثير من المستجدات والمسائل التي لم تكن على عهد عصور الإسلام الأولى؟! 
           أما بالنسبة لتأكيده الاهتمام بالجانب الأخلاقي فإنني أتفق معه فيما ذهب إليه من أنه سببٌ من أسباب النهوض بالأمة، وأن أزمتنا الحقيقية أزمة أخلاق، إلا أنني أرى أنه لم يكن مصيبًا في عدم تحديده مَنْ المنوط به الاهتمام بالجانب الأخلاقي هنا وهل كان يقصد به الجانب الأخلاقي بالنسبة للحاكم أم بالنسبة للمحكومين أم بالنسبة للاثنين معًا؟! وإن كان محقًا في قوله إن السبب الأساسِ لسقوط الحضارات هو سقوط أخلاق الأمة ودليله في ذلك الحضارتان الرومانية والعربية، فقد تجدني أتفق معه ولكن بشكل جزئي، حيث إن تدني أخلاق الأمة هو أحد أسباب سقوطها وتدهورها إلا أنه ليس كل الأسباب، كما ذكرت آنفًا، فهناك أسباب تكون مجتمعة لسقوط أي أمة من الأمم منها؛ على سبيل المثال لا الحصر، الغزو الخارجي وفساد الحكام من خلال الصراع على السلطة، وغيرها من الأسباب.
             وبالنسبة لعوامل انهيار الحضارة الرومانية فقد اختلف المفكرون والمؤرخون حولها، فقد ذهب "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة"، وإن كان يتفق مع "الرافعي" بشكل جزئي، في قول الأول (إن الحضارة العظيمة لا يُقضى عليها من الخارج إلا بعد أن تقضى هى على نفسها من الداخل، وشاهد ذلك أننا نجد الأسباب الجوهرية لسقوط روما في شعب روما نفسه، أي في أخلاقها)، إلا أنه يختلف معه من حيث إنه يضيف أسبابًا أخرى منها (... وفي النزاع بين طبقاتها، وفي كساد تجارتها، وفي حكومتها الاستبدادية البيروقراطية، وفي ضرائبها الفادحة، وحروبها المهلكة)  بمعنى أن ثمة عوامل أخرى عملت على انهيار الإمبراطورية الرومانية منها تلك الفوضى السياسية التي عجلت تدهور الإمبراطورية الاقتصادي، كما عجل التدهور الاقتصادي انحلال البلاد السياسي، فكان كلاهما سببًا للآخر ونتيجة له. كما أدى هذا إلى الضعف على المستوى الثقافي والأخلاقي والديني([12]). وما ينطبق على الحضارة الرومانية ينطبق على الحضارة العربية أيضًا.
          وفي الحديث عن ضرورة النهوض بالدين الإسلامي حتى تنهض الأمة العربية والشرقية، تواجهنا مشكلة هى أين دور أصحاب الديانات الأخرى الذين لهم حق الشراكة والتحالف في الأوطان وفي الأمة العربية والشرقية؟!
         ونجد "الرافعي" يقول:" ومتى نهض المسلمون وهم مادة الشرق، نهض إخوانهم في الوطن والمنفعة والعادة من أهل الملل الأخرى، واضطروا أن يجانسوهم في أغلب أخلاقهم الاجتماعية، ولا حجر على حريتهم في ذلك إلا كبعض الحجر على حرية المريض إذا أوجرته الدواء المر"([13]).
            كل هذا يوضح أن "الرافعي" لا يمنع أصحاب الديانات الأخرى من ممارسة شعائرهم وطقوسهم ولا يغفل دورهم في بناء قواعد الأمة العربية ونهضتها كما حدده الإسلام. وهنا تجدني أيضًا أتفق وما ذهب إليه "الرافعي" في هذا الشأن بالذات، وذلك لأن التاريخ نفسه يشهد بمدى أهمية الدور الحيوي الذي قدمه أصحاب الديانات المختلفة وضرورته وبخاصة الديانتين اليهودية والمسيحية في نهضة الحضارة الإسلامية، فلم تكن الديانة حرجًا في عدم المشاركة في بناء المجتمعات وازدهار الحضارات، وذلك لأن الدين الإسلامي لم يجعل بناء الحضارة الإسلامية حكرًا على أتباعه فحسب.
ب. اللغة العربية:
            أما إذا رجعنا إلى الركن الآخر، وهو النهوض باللغة العربية، فقد جاءت دعوة "الرافعي" للنهوض بها حتى تتحقق نهضة الأمة، كرد فعل على دعوات كثير من المفكرين العرب، الذين تبنٍّوا الاتجاه التغريبي من أمثال سلامة موسى وطه حسين وغيرهما، للتخلي عن اللغة العربية والنهوض باللغة العامية كبديل عنها، وقد كانت دعواتهم تلك نتيجة لسيطرة الغرب واختراقه لصفوف العرب لتمزيق وحدته، ولإبعاده عن أصالته وتراثه، وهو يعلم أن القضاء على أي حضارة يبدأ بمحو لغتها وفرض لغة بديلة عنها تكون في الغالب لغة المُحتل، وقد نجح أولئك المحتلون بعض الشيء في ذلك، فنجد مثلاً الجزائر وتونس وقد تأثرتا باللغة الفرنسية التي حاول أتباعها فرضها على المغرب العربي، كما حاولت انجلترا فرض لغتها الإنجليزية على مصر والعراق، ولكن الأزهر الشريف حال دون تمكينها من رغبتها في مصر([14]).
          ولما عجز الغرب عن سيطرة لغته على ربوع العالم العربي، أشاع بين العرب وبشكل خاص في مصر مقولة: إن العرب لا يستطيعون النهوض، والسير في ركب الحضارة إلا إذا تخلوا عن اللغة العربية، ولجؤوا إلى لغات إقليمية محلية كما حدث للغة اللاتينية. وقد سخًّروا من المفكرين العرب من يقوم بهذه المهمة، ولكنهم فشلوا أيضا ووجدوا من يتصدى لهم من أولئك الذين يقدٍّرون قيمة اللغة العربية والغيورون عليها ويعرفون قدرها، وقد كان من هؤلاء "الرافعي" الذي قام ومن معه بتفنيد تلك الأفكار الخبيثة التي حملتها فكرة اللغات الإقليمية. ومن سوء حظ الغرب وأتباعه أنهم يجهلون أن اللغة العربية ليست لغة حديث فقط، وإنما لغة القرآن الكريم، ولغة التراث العربي الذي يشكل كيان الأمة العربية ووجدانها، إنها اللغة التي حملت القرآن الكريم، وانتشر بها وانتشرت به في شتى أنحاء العالم. لذا فقد خابوا وخسروا([15]).
          وفي هذا السياق نجد "الرافعي" يؤكد أن لغة الأمة كانت الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته .... وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا المنطلق يفرض المستعمر الأجنبي لغته فرضًا على الأمة المستعمرَة،... ويحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد؛ أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا، وأما الثاني فالحكم على ماضيه بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم بالأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعده لأمره تبع([16]).
          ومن هنا يرى "الرافعي" أن أكثر مشاكل الشرق جاءت من تخليه عن لغته، ولهذا السبب أضحى ذليلاً وذلك لأنه ليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها، فاللغات تتنازع القومية، وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثرت اللغة الأجنبية في الخُلق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه. أما إذا قويت العصبية، وعزت اللغة، وثارت لها الحمية، فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يُرتفق بها ([17]).        
          إن ما تمثله اللغة من دور حيوي في حياة الأمة وما تودي به إلى اندثار لها بفقدانها جعل "الرافعي" يكتب العديد من المقالات تنديدًا باللغة العامية ومخاطرها الجسيمة والتي إذا ما شاعت في الأمة ذهبت وحدتها وتفككت أوصالها، وقد كان من بين هذه الكتابات ردوده العنيفة على "طه حسين" فيما يتعلق بهذا الشأن وبخاصة فيما وصفه بالمعركة بين القديم والجديد، فالمذهب القديم، كما يصفه الرافعي، هو أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها.... وأن يكون الدين العربي لا يزال هو هو كأنما نزل به الوحي أمس لا يفتننا فيه علم ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منها شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة فيهما معًا إلا بقيامهما معًا([18]).
          إن هذا يشير إلى أن دعاة رفض اللغة العربية أو نقادها لا يعرفون شيئًا عن عظمتها وقيمتها، فهؤلاء لا يبالون إلا بالمعنى والغرض تاركين اللغة وشأنها، وأنها في رأيهم أداة ليس إلا، وقد كان هذا الجهل منهم لأنهم يفتقدون الذوق الأدبي والمعاني العظيمة للغة من سحر في البيان وروعة في الأسلوب وقوة في العبارات وجزالة في الألفاظ وجمال في المعني. وأن جمال القرآن الكريم يتمثل في إعجازه فى لغته وآياته فكيف لنا أن نتخلى عن اللغة العربية([19]).؟!!.
          وفي ذلك يقول "الرافعي" ( إن هذه العربية بُنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدًا عليها، فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فلكًا دائرًا للنيًرين الأرضيًين العظيمين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع) ([20]).
          هذا ولم يكن دفاع "الرافعي" عن اللغة العربية مقتصرًا على الكتابة النثرية، وإنما كان للشعر دور كبير أيضًا في الدفاع عنها وقد تمثل هذا الجانب في قصيدته التي جاءت بعنوان "اللغة العربية والشرق" والتي جاءت في ديوان الرافعي، الجزء الثاني، وهي قصيدة يبكي فيها الرافعي ما آلت إليه اللغة العربية، وقد عزا ذلك إلى كيد أبنائها لها، إنهم لم يراعوا فيها ما أرضعتهم إياه، وقد يجني النسب كثيرا من الأحزان على من ينتسب إليه حتى إند بدأ القصيدة بقوله([21]):
أمٌّ يكيدُ لها من نسلــها العـــقب *** ولا نقيصة إلا ما جنى النسبُ
كانت لهم سببــا في كل مكــرمة *** وهم لنكبتها من دهرها سببُ
لا عيب في العرب العربان إن نطقوا *** بين الأعاجم إلا أنهم عـربُ
             لقد صور الرافعي إهمال العرب لغتهم الأم التي يكيد لها أبناؤها، وهو منتهى العقوق الذي يمكن تصوره لأن هذه الأم كانت سببًا في كل مكرمة نالها هؤلاء العرب، فقد وصلت لغتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، ثم بعد كل هذا الذي قدمته لهم أمهم يقلبون لها ظهر المجن، فتراهم إن نطقوا بلغة لا يكاد يعرفها غيرهم، والرافعي يشير بذلك إلى اللغة العامية التي لا تُعرف إلا بين الناطقين بها، أما اللغة العربية فإن الأمة العربية كلها تشترك فيها، وتتبين ملامحها([22]).
ثم أخذ الرافعي يتحدث عن تاريخ اللغة العربية، وكيف أنها استمرت طوال الدهر ناصعة كالبدر حتى طمست السحب من نوره، ثم حدث لها ما حدث في تاريخها الحديث حتى قال([23]):
سلوا الكــواكب كم جيل تــداولها *** ولم تزل نيــراتُ هذه الشهبُ
وسائلوا الناس كم في الأرض من لغة *** قديمة جددت من زهوها الحقبُ
 ونحن في عجب يلهو الزمـــان بنا *** لم نعتبر، ولبئس الشيمة العجبُ
ثم أخذ يوجه حملته على الغرب الذي حاول طمس اللغة العربية، والدعوة إلى لغته التي أراد بها في صفوف الأمة، والدعوة إليها فقال([24]):
أنترك الغرب يلهينا بزخـرفه *** ومشرق الشمس يبكينا، وننتحبُ
وعندنا نَهَرٌ عذب لشــاربه *** فكيف نتركـه في البحر ينسربُ
وأيما لغـــة تنس امرءً لغةً *** فإنها لعنـــة من فيه تنسكبُ
           إنها صيحة قوية يرسلها الرافعي، حتى يدرك الجميع أن اللغة العربية ما زالت تعطي، وتقدم للجميع ما يمكن أن يجعلهم يفخرون بها، فهي كالنهر العذب الذي يجب علينا أن نحافظ عليه، ولا نتركه يضيع في بحر اللغات الأخرى([25]).، ثم أرسل حكمته الرائعة في قوله:
وأيما لغة تنس امرءً لغة *** فإنها لعنة من فيه تنسكبُ
          ثم أنحى باللائمة على لغة القصور التي يتشدق بها ساكنو القصور، لأنهم يحاولون أن يلووا ألسنتهم بكلمات أجنبية، حتى يظهروا للناس أنهم على علم باللغات الأجنبية، حتى يقول([26]):
أرى نفــوس الورى شتى وقيمتها *** عنـدي تأثرها لا العز والرتبُ
ألم تر الحطب استعلى فصار لظى  *** لما تأثر من مس اللظى الحطبُ
فهل نضيع مـــا أبقى الزمان لنا *** وننفض الكف لا مجد ولا حسبُ
ويستمر "الرافعي" في حديثه عن اللغة العربية، ونعيه على قومها الذين أهملوها، ونزعوا إلى اللغات الأخرى، فيختم قصيدته بقوله([27]):
هيهـات ينفعنا هذا الصبــاح فما *** يجدي الجبان إذا روعته الصخبُ
ومن يك عاجزا عن دفع نائبة  ***  فقِصر ذلك إن تلقاه يحتسبُ
إذا اللغات ازدهرت يومًا فقد ضمنت *** للعرب أي فخار بينها الكتبُ
وفي المعادن مــا يمضي برونقه *** يد الصدا غير أن لا يصدأ الذهبُ
           هذه نظرات سريعة في قصيدة الرافعي التي تحتاج إلى وقفات متأنية، حتى يتضح من خلالها مدى ما يرمي إليه الرافعي، ومدى ما وفق فيه، أو أخفق، وكذلك تلك اللغة التي عالج بها الرافعي قصيدته، وتحلية هذا الأسلوب بالحكمة التي أتت في مكانها، ولم تكن مستجلبة، أو مستكرهة([28])..
          ومن كل ما سبق يمكننا القول إن اللغة العربية هى الركن الآخر الذي لا سبيل للنهوض بالعالم العربي والإسلامي إلا بها وبالدين الإسلامي، وقد عبًّر"الرافعي" عن هذه المسؤولية التي حملها على عاتقه حين قال:( والقبلة التي اتجه إليها في الأدب إنما هى النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا اكتب إلا ما يبقيها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها... ثم أنه يُخيًّل إليًّ دائمًا أنني رسولْ لغوي، بُعثتُ للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه..) ([29]).
           إذا كان "الرافعي" قد خلص إلى تلك النتيجة السابقة، إلا أنني أرى أن إشكالية النهوض بالعالم العربي والإسلامي شائكة إلى أبعد الحدود، وما يزيد هذه الإشكالية تعقيدًا هو أنه لا توجد حتى الآن رؤية جامعة مانعة لما يحمل طابع النظرية ولما يتخذ من التطبيق موقف الجدية لحل هذه الأزمة. فكل ما قدمه المفكرون لا يخرج عن كونه وجهات نظر فردية ينطلق أصحابها من اتجاه ما، على أمل أن يكون فيه الدواء الأصيل للعالم العربي العليل. ومن هنا كان ما قدمه "الرافعي" جزءًا من كلٍ متكامل. والناظر إلى مفكري عصر التنوير يجد أن كل منهم قدم حلا لإشكالية النهضة ربما يختلف من مفكر لآخر. ولا يمكن النهوض بالعالم العربي إلا إذا حدثت نهضة حقيقية على كافة الأصعدة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية في آن واحد.
          وهذا ما أكده "مالك بن نبي" في كتابه "شروط النهضة" حيث ذهب إلى أن كل الدراسات التي تناولت موضوع النهضة كانت تعالج الاستعمار والجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم، واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مُرضية للمجتمع الإسلامي، بحيث لا تدع مجالا للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون. ومن هنا كان كل مصطلح يصف الوضع الراهن تبعًا لرأيه أو مزاجه أو مهنته. فرأي رجل سياسي كـ"جمال الدين الأفغاني": أن المشكلة سياسية تُحل بوسائل سياسية، بينما رأي رجل دين كـ"الشيخ محمد عبده" أن المشكلة لا تُحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ..الخ.. على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض، بل يتحدث عن أعراضه. وهذا شأن العالم الإسلامي الذي لم يستطع حتى الآن تشخيص مرضه وبالتالي عجز عن علاجه([30])
          وإذا كان الرافعي قد اتخذ  الاتجاه التوفيقي طريقًا من أجل النهوض بالعالم العربي والإسلامي، إلا أنني أرى أن هناك اتجاهًا رابعًا وهو لم يظهر في شكله النهائي بعد وأعني به التيار التوفيقي الإبداعي الأصيل، وهو الذي لا يقوم بدور التقليد سواءً من التراث أو من الحداثة، بل يبدع وينتج من ذاته تارة ومن السابقين عليه تارة أخرى-لأنه لا يوجد فكر يبدأ من فراغ- بحيث لا يصطدم مع التراث أو الحداثة. يأخذ من التراث ما يتوافق وعصره ويطوره ويأخذ من الحداثة ما يتوافق ومبادئه ويطورها أيضًا.
4. العلاقة بين الشرق وبين الغرب:
أ. في العلوم والتقنية الحديثة:
          وفيما يتعلق بالعلاقة بين الشرق والغرب أو التراث والحداثة نجد "الرافعي" لا يرفض التعامل مع ما قدَّمتْه المدنية الغربية من إنجازات ولكن ليس عن طريق التقليد الأعمى وفي ذلك يقول ( وإني أرى أنه لا ينبغي لأهل الأقطار العربية أن يقتبسوا من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد، بل اقتباس التحقيق، بعد أن يعطوا كل شيء حقه من التمحيص ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية؛ فإن التقليد لا يكون طبيعة إلا في الطبقات المنحطة، وصناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد، وما قلد المقلد بلا بحث ولا روية إلا أتى على شيء في نفسه من ملكة الابتكار وذهب ببعض خاصيته العقلية؛ على أننا لا نريد من ذلك ألا نأخذ من القوم شيئًا؛ فإن الفرق بعيد بين الأخذ في المخترعات والعلوم، وبين الأخذ من زخرف المدنية وأهواء النفس وفنون الخيال ورونق الخبيث والطيب؛ إذ الفكر الإنساني إنما ينتج للإنسانية كلها، فليس هو ملكًا لأمة دون أخرى؛ وما العقل القوي إلا جزء من قوة الطبيعة) ([31]).
          هنا يرفض الرافعي التقليد ويحث على ضرورة الفحص والتمحيص لما نأخذه عن الغرب وبخاصة فى المخترعات العلمية، وهو لا يرفض المدنية الحديثة ولا يقف منها موقف المتعصب الذي يرفضها جملة وتفصيلاً، وإنما ينظر إليها بعين الإنسان الواعي المستنير العقل والفكر، وهذا ما نجده في تأكيده أن الفكر الإنساني ليس حكرًا على أحد، بل ملك للبشرية جمعاء وللجميع حق الإسهام فيه كما لهم أيضا حق الأخذ منه ما يتفق ومعتقداتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ب. في نظام الحكم والسياسة:
           يقول "الرافعي" فيما يتعلق بنظام الحكم "فإن نحن أخذنا من النُّظُم السياسية فلنأخذ ما يتفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحد الذي لا يجور على أخلاق الأمة ولا يفسد مزاجها ولا يضعف قوتها"([32]).
وهذا يعني أنه إذا كان الغرب يتشدق بديمقراطيته المزيفة تلك الديمقراطية التي تجعل الحكم فيها للشعب، إلا أننا ينبغي أن نتمسك بالشورى التي يكون الحكم فيها لله سبحانه وتعالى وحده، وذلك من خلال الرجوع لأهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأهل الخبرة فى كل مجال على حدة. كما يؤكد "الرافعي" أيضا على ضرورة ألا نأخذ من الأنظمة السياسية الغربية ما لا يتفق وأخلاقنا وقيمنا. 
جـ. في الأدب والشعر:
           وفيما يخص الأدب والشعر يذهب "الرافعي" إلى أننا " إذا انتقلنا إلى الأدب والشعر فلندع خرافات القوم وسخافاتهم الروائية إلى لب الفكر ورائع الخيال وصميم الحكمة، ولنتتبع طريقتهم في الاستقصاء والتحقيق، وأسلوبهم في النقد والجدل، وتأتيهم إلى النفس الإنسانية بتلك الأساليب البيانية الجميلة التي هي الحكمة بعينها"([33]).
          وهنا أيضًا نجد "الرافعي" متمسكًا بالقيم الأخلاقية الإسلامية والعربية والشرقية، التى يرفض أن تذوب في ظل العولمة الغربية، فهو بهذا يرفض كل أدب وكل شعر، بل وكل فن يدعو إلى الرذيلة وانحطاط الأخلاق، أي كل ما يخالف ديننا الإسلامي الحنيف. إلا أنه لا يحجر على أدبائنا وشعرائنا في التأثر بأدباء وشعراء الغرب، بل ويحث على اتباع أساليبهم المتعددة والمتميزة في النقد والتحليل والتنوع في الإبداعات الأدبية والشعرية.
          وعلى خلاف "الرافعي" نجد "سلامة موسى" الذى دعا إلى القطيعة مع أدبنا العربي بكل ما فيه وأسماه الأدب التقليدي وذلك لأنه، أي الأدب، يهتم بالأسلوب الكتابي في حين أنه لم يهتم بأسلوب العيش، فالأديب التقليدي يُعنى مثلاً بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يُعنى بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينقده ويطلب إصلاحه، وهو يكتب عن العرب وتاريخهم ومجدهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تُعانيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؛ ولذلك فإن أدبه سلفي، وهو أدب الكتب الذي يجعله يعيش في عُزلة عن الوسط الذي يحيط به وكأنه في برج عاجي، وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا. ليس هذا فحسب، بل دعا موسى إلى ضرورة تقليد الأدب الأوروبي وبخاصة الإنجليزي وذلك لأنه يتصل بالحياة ويتأثر بها، ويؤثر فيها، وهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتابة([34]).
د_ في العادات والتقاليد:
          وأما في العادات الاجتماعية فقد أسرد "الرافعي" رأيه في ذلك قائلاً:" إن الشرق شرق والغرب غرب -وما أرى هذه الكلمة تصدق إلا في هذا المعنى وحده- والقوم في نصف الأرض ونحن في نصفها الآخر، ولهم مزاج وإقليم وطبيعة وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ولا يختلف؛ وإن أول الأدلة على استقلالنا أن ننسلخ من عادات القوم، فإن هذا يؤدي بلا ريب إلى إبطال صفة التقليد فينا، ويحملنا على أن نتخذ لأنفسنا ما يلائم طبائعنا وينمي أذواقنا الخاصة بنا، ويطلق لنا الحرية في الاستقلال الشخصي؛ ولقد كنا سادة الدنيا قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا منها ومن أثرها فينا ما أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسائنا على السواء؛ وما هؤلاء الشبان المساكين الذين يدعون إلى بعض هذه العادات ويعملون على بثها في طبقات الأمة إلا كالذي يحسب أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه.. ولقد غفلنا عن أننا ندعو الأوروبيين إلى أنفسنا وإلى التسلط على بلادنا بانتحالنا عاداتهم الاجتماعية؛ لأنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجه من التقريب بين جنسين يعين على اندماج أضعفهما في أقواهما ويضيق دائرة الخلاف بينهما، ثم هو من أين اعتبرته وجدته في فائدته للأوروبيين أشبه بتليين اللقمة الصلبة تحت الأسنان القاطعة؛ وهل نسي الشرقيون أن لا حجة للغرب في استبعادهم إلا أنه يريد تمدينهم؟ وحيثما قلنا "الدين الإسلامي" فإنما نريد الأخلاق التي قام بها، والقانون الذي يسيطر من هذه الأخلاق على النفس الشرقية؛ وهذا في رأينا هو كل شيء؛ لأنه الأول والآخر"([35]).
          من الواضح تمامًا، أن "الرافعي" هنا يرفض ما يسمى فى عصرنا الحالى بالعولمة؛ تلك التي تذوب فيها حضارة الضعيف من الناحية الفكرية والعلمية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية، في حضارة القوي، ويصبح تابعأ ومقلدًا بعد أن اندثرت حضارته وتم القضاء عليها تمامًا. وقد أرجع "الرافعي" سبب رفضه لعادات وتقاليد الغرب إلى اختلافهم معنا دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا فهذه أشياء لا تستطيع أمتنا العربية والإسلامية أن تنسلخ عنها أو تعيش بدونها.
          من كل ما سبق نستطيع أن نستنتج أن "الرافعي" كان بحق مفكرًا ومبدعًا عشق دينه فدافع عنه بكل ما يملك، واعتز بهويته العربية والإسلامية فجعل دفاعه عن اللغة العربية ديدنه في كل ما كتب وألف تقريبا. ومن هنا كانت دعوته الواضحة التي تتمثل في أنه لا سبيل للنهوض بالعالم العربي والشرقي والإسلامي إلا بالنهوض بالدين الإسلامي وباللغة العربية، ولكن هذا لم يجعل الرافعي يغفل أو يتغافل عن الحضارة الغربية وما بها من تقدم علمي وتكنولوجي وإنما وقف منها موقف الغربلة وموقف التوفيق بينها وبين تراثنا وحضارتنا بحيث نأخذ منها وما يتفق مع ديننا وعاداتنا وتقاليدنا وقيمنا.
        وفي النهاية، توصي الدراسة بضرورة الرجوع إلى الدين الإسلامي الحنيف، كتابًا وسنةً بفهم سلف الأمة دون حزبية ولا عصبية لجماعة بعينها، وأن تكون المؤسسات الدينية والعلمية وحدها المنوط بها حمل رسالة الإسلام السمحة دون إفراط ولا تفريط، بالإضافة إلى الاهتمام باللغة العربية؛ نُطقًا وكتابةً في كل مناحي الحياة العلمية والأدبية وغيرها، وأن نعتز بلغتنا وأن تُفعل قوانين تحُث على ذلك.



المراجع:
 (1) مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن عبد القادر الرافعي، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، اللبناني الأصل (من طرابلس الشام)، وهو المصري المولد والنشأة، العربي اللسان والفكر والقلب، المسلم المجاهد بقلمه دفاعًا عن كتاب الله، والمناطح عن لسان أجداده العرب، وفد جده الشيخ عبد القادر من الشام إلى مصر في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وعلى يده تخرج كبار علماء مصر. أبصرت عيناه النور في قرية بهتيم (محافظة القليوبية – مصر) في أوائل المحرم من عام 1291 من الهجرة، الموافق يناير 1880 ميلادي. له العيد من المؤلفات والكتب من أبرزها؛ ديوان الرافعي، ووحي القلم، وتاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وتحت راية القرآن الكريم المعركة بين القديم والجديد، والمساكين، وحديث القمر و.....الخ.
انظر في ذلك: محمد سعيد العريان، حياة الرافعي، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الثالثة، 1955، ص 23.
(2) زكريا، فؤاد،2010 "الأصالة والمعاصرة ما بين الإتباع والإبداع"، صحيفة الوسط البحرينية،العدد 2779 ، تم الدخول 25/8/2013.
(3) الجابري، محمد عابد : "نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)"، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط. السادسة، 1993، ص ص 14:12.
(4) انظر، المسيري، عبد الوهاب: "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، القاهرة، دار الشروق، المجلد الأول، الطبعة الأولى، 2002، ص 15.
(5) الرافعي، مصطفى صادق:" نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.. القلوب والأدمغة هى أساس النهضة الصحيحة الثابتة"، مقال، تم الدخول 2/11/2013، http://lahodod.blogspot.com/2010/06/1_9470.html 
(6) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.
(7) المسيري، عبد الوهاب: الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، رؤية حضارية جديدة، تقديم، محمد حسنين هيكل، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 2001، ص،17.
(8) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.
(9) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.
(10) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.
(11) الرافعي، مصطفى صادق: وحي القلم، راجعه، درويش الجويدي، الجزء الثالث، بيروت المكتبة العصرية، 2002، ص ص 39:34.
(12) ديورانت، ول وايريل:" قصة الحضارة، قيصر والمسيح أو الحضارة الرومانية"، ترجمة، محمد بدران، الجزء الثالث من المجلد الثالث، بيروت، دار الجيل للطباعة والنشر، د.ت، ص،ص341، 404.
(13) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.
(14) يونس، عبد المنعم:" موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية"، مقال فى، موقع جماعة العدل والإحسان بتاريخ، الثلاثاء 6 فبراير 2007، تم الدخول،18/9/2013، http://www.aljamaa.net/ar/index/index.shtml.
(15) يونس، عبد المنعم: "موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية".
(16) الرافعي، مصطفى صادق: "وحي القلم"، الجزء الثالث، ص 29.
(17) الرافعي، مصطفى صادق: "وحي القلم"، الجزء الثالث، ص 30.
(18) الرافعي، مصطفى صادق:" تحت راية القرآن الكريم المعركة بين القديم والجديد"، القاهرة، مكتبة مصر، 1999، ص ص،16،15. 
(19) يونس، عبد المنعم: "موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية".
(20) الرافعي، مصطفى صادق:" تحت راية القرآن الكريم المعركة بين القديم والجديد"، ص35. 
(21) الرافعي، مصطفى صادق: ديوان الرافعي، شرح محمد كامل الرافعي، الإسكندرية، مطبعة الجامعة، الجزء الثاني، 1321هـ، ص14.
(22) يونس، عبد المنعم: "موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية".
(23) الرافعي، مصطفى صادق: ديوان الرافعي، ص15.
(24) الرافعي، مصطفى صادق: ديوان الرافعي، ص16.
(25) يونس، عبد المنعم: "موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية".
(26) الرافعي، مصطفى صادق: ديوان الرافعي، ص16.
(27) الرافعي، مصطفى صادق: ديوان الرافعي، ص17.
(28) يونس، عبد المنعم: "موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية".
(29) الرافعي، مصطفى صادق: "وحي القلم"، الجزء الثالث، ص 300.
(30) ابن نبي، مالك: "شروط النهضة"، ترجمة، عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين،1986، دمشق، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، ص 41.
(31) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها
(32) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها. 
(33) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.
(34) موسى، سلامة:" الأدب للشعب"، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013 ص ص 8،7.
(35) الرافعي، مصطفى صادق: نهضة الأقطار العربية وتخلصها من أوهام السياسة وخرافاتها.   



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس