حركة التنوير
أ.د. ابراهيم طلبه سلكها
رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة
طنطا
مصر
تعددت الآراء حول أصل التنوير، فمثلاً نجد بتر جراى Peter gray يرجع التنوير إلى اليونانيين ، ويدلل على ذلك بقول
ديدرو أن طاليس أول من أدخل
المنـــهج العلـــمى فى دراسة
الطبيعة ، وأول من أستحق لقب
" فيلسوف" ( [1] ) .
ويكمننا أن نضيف هنا قول جثرى : " إن طاليس هو الذى قال بأن المــــــاء
هو المادة التى يتكون منها العالم ، وهو العنصر الباقى والدائم فى كل الأشياء (
[2] )
.
ويقدم جراى
" التنوير " كوحده ويربطه بحياة
مجموعة من المفكرين البارزين ؛ ويعرضه من خلال ثلاث مراحل أو أجيال كما يلى :
الجيل الأول
للتنوير: يضم فولتير(1694– 1778) ومونتسكيو(1689-1755).
الجيل الثانى للتنوير: يضم دنيس ديدرو ( 1713- 84 ) ،
ودالبمير (1714-80) وروسو (1712 – 78 ) .
الجيل الثالث
للتنوير : يرتبط بالفترة ا
لحديثة ويضم لسنج
وكانط . ([3])
وكريستوفر
هل فى كتابه" الأصول الثقافية للثورة الإنجليزية " يرى أن
أفكار التنوير فى إنجلترا كانت ذائعة
الصيت فى القرن السادس عشر، وبول هزار فى كتابة " أزمة الضمير
الأوروبى" يرد التنوير إلى النصف الثانى من القرن السابع عشر . ([4])
و برنتن
، مــع تأكــــيده أن رجال القرن السابــــع عشر هم الذيــن مهــــدوا
لعصـــــــــــر التنوير، يرد حركة التنوير إلى الـــــقرن الثامن عشر، الذى وصل
فيه المفكرون من الرجال والنساء إلى
معتقدات معينة عن أنفســـــــهم وعــــــن
العالم ، وعما يستحق العمل فى هذه الدنيا ، وما
يمكن أداؤه فيها .. وهى معتقدات لم يتمسك بها أسلافهم فى العصـــــور
الوسطــى . كانوا يعيشــون فى عالم بدا لهم
جديداً ، مادامت أفكارهم عنه جديدة ... وكثير مما كان يعتقد فيه الرجال والنساء فى القرن الثامن عشر كان لا يــــــــتفق وبعــــــــض النواحـــى المهمة فى العقيدة المسيحية التقليدية ..
فالتنوير قد " حور العقيدة المسيحية تحويراً أساسياً " ([5]) .
وآرسنت
كاسيرر فى دراسته عن " فلســفة التنوير " يرجــع التنــوير إلى القرن الثامن عشر ، حيث يربطه
بحياة أثنين من الفلاسفة البارزين هما : ليبنتز
( 1646 – 1716 ) وكانط ( 1724-1804 ). ومن كلماته : " التنوير نسق قيمى
متأصل فى العقلانية " ([6]) .
و روبرت و
كلر يرى أن مصطلح " التنوير
" ظهر لأول مرة فى اللغة الإنجليزية فى نهاية القرن التاسع عشر
فى الشروح الإنجليزية لفلسفة هيجل
، وذلك قبل ابتكار تعبير " التنوير الاسكتلندى " وقبل مائة عام
تمــــامــــــاً لسمـــــاع أى
فرد عن " مشروع التنوير " الذى تصورة
ألاسداير ماكنتاير فى كتابه " بعد الفضيلة " وذلك
بعد بداية مشروع مانهتن بأكثر من ثلاثة عقود ([7])
.
كمــــا أن أولريك أم هوف يرجع
التنوير إلى نهاية القرن الثامن عشر مطلع
القــــــرن التاسع عشر ، عندمـــــا كان فى منافسة مع تعبير " عصر العقل
" فخلال القرن الثامن عشر تحدث الفيلسوف باركلى ، على سبيل المثال ، عن
ذلك عندمـــــــــــا قال : إن
محيط النور إخترق وواصل سيره على الرغــــــــم من العبوديــــــة والخرافــــــــة " ، بينمــــــــا
لاحظ إنجليـــــــزى أخـــــــــــر أن
القـــرن قد استنار بعيـداً عن آمــال و تخيــلات ( أوهــام ) العصــور
السابقة ([8]) .
ومهما يكن
من أمر التباين فى أصل التنوير ،
فالـــرأى الشائع و المألــــوف هو
أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، و هو عصر من
صنع " الفلاسفة " وإن
كان " الفلاسفة " قد مجدوا العقل ، مثل ، اليونانيين ، إلا أنهم تميزوا
بفصل الفلسفة عن الميتافيزيقاً التقليدية . فالعقلانية القديمة
لم توفق فى الربط بين العقل والحياة اليومية ومن ثم انفصلت عن الوقائع العينية
للحياة الحقيقية . وإذا كان التنوير معتزاً
بأن يكون هو " عصر الفلسفة " فالفلسفة هنا ليست هى الفلسفة
بالمفهوم التقليدى وإنما هى رؤيه وضعية لنسق العالم ، ولأنحــاء الوجود
الإنســــــانى فتؤســـــــس العلوم والفنون على مبدأ العلية دون مجاوزة هذا
العـــــــالم ، ومن ثم يهتم الفيلسوف بالحياة فى هذه الدنيا ، وليس بالبحث عن الحقائق الأزلية فيربط بين العقل
والوقائع العينية . ([9])
وهذا ما أكد "
برلين " فى كتابه " عصر التنوير : فلاسفة القرن الثامن عشر"
فقد رأى أن القرن الثامن عشر هو الفترة الأخيرة فى تــــاريخ أوروبــــا الغربية
حيث تم فيه اعتبار المعرفة البشرية اللامحدودة هدفاً يمكن تحقيقه .([10])
وقال : " إن القوة الفكرية ، والإخلاص والوضوح ، والشجاعة ، ومحبة الحقيقة
لدى معظم المفكرين الموهوبين فى القرن الثامن عشر ما تزال حتى الأن من دون نظير .
فهذا القرن يعد واحداً من أفضل وأكثر الأحداث المبشرة " الواعدة " فى
حياة الجنس البشرى ([11])ولــــذلك
لا يمكن الشك أبداً فى أن برلين قد أيد تنوير القرن الثامن عشر وإرثه ووقف
بجواره .
وبصورة
عامة، فالجدل حول معنى " التنوير " بدأ فى القرن الثـــــــــــامن
عشـــــر ذاتــــــه واستمـــــر فى كامل قوته حتى عصــرنا . بل إن المفكرين فى
القرن الثامن عشر كانوا على وعى كبير بأن انتشار الكلمات المستخدمة فى المجالات
اللغوية المختلفة للإشارة إلى " التنوير " _ Aufklarung
فى الألمانية ، Lumieres
فى الفرنسية ، Illuminismo
فى الإيطالية – قد كشفت عن تنويع
رئيسى فى أصل التنوير . لهذا لم يكن من المدهش أن تهتم مجلة شهرية ظهرت فى برلين
عام 1783 بعنوانBerlinische Monatsschrift بالإجابة عن سؤال بسيط،
ولكنه مهم ، هو " ما التنوير؟". ونشرت المجلة عدة مقالات للإجابة عن هذا
السؤال ، لعدد كبير من المفكرين ينتمون إلى مجالات فكرية مختلفة مثل
الكاتب المســــرحى جوتهولد ايفرايم لسنج ( 1729 – 81 ) والفيلسوف اليهودى موسى
مندلزون ( 1729 – 86 ) والفيلسوف الروسى ايمانويل كانط (1724 – 1804 )
وغيرهم . ويمكن قراءة هذه المقالات على أنها تقدم ملخصاً مهماً للمعانى المختلفة
التى أصبحت بنهاية هذا القرن مرتبطة
بمصطلـــح " التنوير " . ([12])
وقبل ذلك
بأعوام قليلة ، وبالتحديد فى عام 1780 ، وجه الحاكم الشهير فردريك من بروسيا ( 1712 – 86
) أكاديمية برلين للعلوم لتقديم جائزة لأفضل
مقال يقدم إجابة عن السؤال:" هل التنوير وسيلة لخداع الناس؟".
وكان هذا السؤال يشكل المسابقة الأكثر شهرة فى تاريخ الأكاديمية وقد لاقى اهتماماً
واسعاً فى أوروبا مما يدل على أهمية التنوير . وفى نهاية القرن الثامن عشر كانت كلمة " التنوير
" مهمة بشكل كاف حيث طرحت مشاكل
كبرى فى مجال السياسة والمعرفة عبر المجتمع . كما كان هناك أيضاً وعى بصعوبة وتعقيد أى إجابة عن هذا
السؤال . ([13] )
وقد ارتبطت
فكرة النور Idea of light بتحرير العقل وتمجيده : Aufklarung und licht , freiheit und licht " التنوير والنور ، الحرية والنور" فالتنوير يعنى التخلص من
تلك الأحجبة والستائر التى تعوق رؤيتنا ، وإعطاء طريق للنور ليدخل قلوبنا وعقولنا
لإلقاء الضوء على السابق وتحفيز التالى وبهذا يشق طريقه داخل مجالات الحقيقة و
النظام حيث التحكم فى
مصير الإنسان وسعادته " فقد تحدث ويلاند عن حرية
الفكر وحرية النشر ، وقال أنهما بالنسبة
للعقل كالنور للعيون . وحينما سعى هيردر الشاب لوصف العصر الذى عاش
فيه ، فإنه سماه " عصرنـــــا المستنير ، أكثر القرون إشراقاً ([14]) .
وبيتر
جراى يعرف برنامج التنوير بأنه أحد الأعمال العدائية للدين والبحث عن
"الحرية " و" التقدم" اللذين يمكن تحقيقهما بالاستخدام الجدلى
للعقل من أجل تغيير علاقات الفرد مع نفسه ومع مجتمعه . ويؤكد أهمية رؤية التنوير
كبرنامج إصلاحى تحررى ... وهذا التفسير مكنه من توسيع قائمة المفكرين لتشمل
الأمريكيين توماس جفرسون ( 1743 – 1826 ) وبنيامين فرانكلين ( 1706–
90 ) ومن رؤية الثورة الأمريكية فى
السبعينات فى ضوء التزامها " بالحياة والحرية والسعى لتحقيق السعادة
" على أنها تطبيق لبرنامج التنوير . ([15])
فالفكرة
الأساسية التى يقوم عليها التنوير– أى الفكرة التى تجعله نظرية كونيه – إنما هى
" الاعتقاد بأن كل الكائنات البشرية يمكن أن تبلغ هنا فى هذه الدنيا حالة من
حالات الكمال كان يظن حتى الآن فى الغرب أنها لا تتيسر إلا للمسيحين فى حالة
النعمة ، ولهم وحدهم بعد الموت " . وقد عبر عن ذلك سنت جست ، الثائر
الفرنسى الشاب فى بساطة خادعة أمـــــام المجمع الدينى ، حين قال : " إن
السعادة فكـرة جديدة فى أوروبـــا ليست جديدة فى السماء بطبيعة الحال ، وإنما هى جديدة فى
أوروبــا ، جديدة جداً فى أمريكا . وهذا الإمكان فى تحقيق الكمال للجنس البشرى لم
يكن نتيجة لما يقرب من ألفى عام من المسيحية ، ولا للوثنية السابقة التى ارتأت
صوراً أخرى للسعادة تتحقق بعد آلاف السنين . وإذا كان لابد لهذا الكمال من أن
يستحدث فى القرن الثامن عشر فإن شيئاً
جديداً – اختراعا جديداً ، أو اكتشافاً
جديداً – لابد أن يحدث . وهذا الشىء
الجديد يمكن تلخيصه أحسن تلخيص فيما ألف
أثنان من الإنجليز عاشا فى أواخر القرن السابع عشر ، وهما اللذان جمعا فى
بؤرة واحدة العمل التمهيدى الذى تم فى أوائل القرون الحديثة ، ذلكما الرجلان هما نيوتن
و لوك ([16]) .
فالعمل الذى انفق نيوتن فيه حياته –
وخاصة إتمام لحساب التكامل وصياغته الرياضية العظمى للعلاقة بين الكواكب وقوانين
الجاذبية – بدا لمعاصريه كأنه يفسر كل الظواهر الطبيعية ، أو يبين على الأقل كيف
أن كل ما يماثل هذه الظواهر بما فيها سلوك الكائنات البشرية يمكن أن يخضع للتفسير
. أما لوك فقد استخلص طرائق التفكير الواضحة البسيطة من متاهة الميتافيزيقا
حيث أرساها ديكارت ، فجعلها فيما يبدو امتداداً طيباً للحس السليم. والظاهر
أنه بين للناس الطريقة التى يمكن أن تطبق
بها النواحى التى نجح فيها نيوتن نجاحاً عظيماً على دراسة شئون البشر وقد وضع نيوتن
و لوك معاً تلك المجموعات العظيمة من
الأفكار ، فى " الطبيعة " وفى " التفكير " ، التى كانت
بالنسبة إلى التنوير ما كانت عليه أمثال هذه المجموعات فى مجالات النعمة والخلاص
والقدرية بالنسبة إلى المسيحية التقليدية ([17])
.
ولقد طبق
الفلاسفة البريطانيون التجريبيون تصورات نيوتن على العقل؛ فتعاملوا مع
العقل على أنه صندوق يحتوى على أفكار عقلية مكافئة لذرات نيوتن .. ولهذا
يؤكد برلين أن تأثير نيوتن فى القرن الثامن عشر كان هو العامل الوحيد
الأكثر قوة. فقد قام بمهمة جبارة غير مسبوقة بتفسيره للعالم المادى فى ضوء
استبعاده لكافة المؤثرات الميتافيزيقية التى أعاقت تقدم البحث العلمى . وبدرجة من
الدقة والبساطة لم يحلم بها من قبل. مما أدى إلى سيادة الوضوح والدقة والنظام فى
علم الفيزياء: " فلقد كانت الطبيعة وقوانينها محجوبة فى الليل : فقال الإله لنيوتن
كن، وتحول كل شىء إلى النور ([18])
.
وبدأت حركة
التنوير فى إنجلترا على يد لوك ، الذى دافع عن التسامح الدينى ؛ وأكد أن الإيمان لا يفرض
بالقوة ؛ وأن التسامح هو وحده
الذى يكفل تحقيق السلام بين البشر .. وقال لوك بضرورة الفصل بين الكنيسة
" السلطة الدينية "والدولة" السلطة المدنية
"فلكل سلطة اختصاصاً معيناً لا دخل للأخرى به ، فهدف الكنيسة هو الحياة
السماوية الأخروية وهدف الدولة
هو الحياة الأرضية
الدنيوية أى تنظيم شئون
الناس فى الحرية والملكية والحياة
( فى الصحة والأرض والمال والمسكن ووسائل الترفيه وما شابه ذلك. ولذلك
فليس للدولة أن ترعى العقيدة الدينية فى التشريع، ويجب أن تظل قوانين الدولة فى استقلال كامل عن الإيمان الدينى، فلا محل للقول بدولة مسيحية ([19]) .
وكان لوك
يقصد بالتسامح الدينى : أنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية
". ولهذا فإن " فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أية معرفة عن الدين
الحق " . ومعنى ذلك أن التسامح الدينى يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن "
خلاص النفوس من شأن الله وحده .ثم إن الله
لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى إنسان ديناً معيناً. ثم إن قوة الدين الحق كامنة
فى اقناع العقل ، أى كامنة فى باطن
الإنسان " ([20]) .
وأعلن
لوك أنه لا مبادئ فطرية فى العقل ، فالتجربة هى التى تزودنا بكل المعرفة. والعقل ذاته صفحة بيضاء
يكتب عليها الحس والتجربة بــــألاف الطرق ([21])
. ويكفى فى رأيه إقناع القراء المنصفين بـــــزيف الأفكار الفطــرية ، وكيف أن
الناس باستخدام ملكاتهم الطبيعية فقط قد يبلغون درجة اليقين دون اللجوء إلى أى من مثل
هذه الأفكار .
فأى إنسان يمكنه أن يسلم بسهولة بأنه من غير
اللائق افتراض أن الأفكار الخاصة باللون هى أفكار فطرية فى الإنسان الذى وهبه الله
نعمة البصر والقدرة على استقبال الألوان من الأشياء الخارجية عن طريق عينيه.
وبالمثل فإنه من غير اللائق أن نعزو حقائق متعددة للانطباعات والسمات الفطرية فى
الوقت الذى يمكن فيه أن نلاحظ فى أنفسنا مواهب قادرة على أن تبلغ معرفة يسيرة
ومؤكدة بهذه الأشياء كما لو كانت منطبعة أساساً فى عقولنا ([22]) .
واذا كان لوك
هو رائد حركة التنوير فى إنجلترا ، فإن هيوم هو أكبر ممثل لهذه الحركة .. فلقد سار هيوم
بالمعضلة الديكارتية التى تتعلق بالفكر والمادة الى حد بدأ معه الشك بالتأكيد.
كان هيوم أحد المتسائلين المدنيين عن الوحى وعن مذهب إثبات وجود الله مه إنكار
الوحى، أو " الديانة الطبيعية ". وهو أكثر ابتكاراً عندما يتسائل عن
الصدق بمعنى اليقين الثابت المطلق الميتافيزيقى – صدق الأحكام العامة التى وصل
اليها رجال العلم. إن العقل عند هيوم ذاتى كالحواس ، أو هو على الأقل نقل أو
تقرير للواقع على صورة لا يمكن التثبت من صحتها فى نهاية الأمر . ولقد وجد هيوم
– كغيره من المتشككين فى قدرات الناس العقلية والخلقية – فى التقاليد والعادات
والعرف أساساً أثبت للحياة فوق هذه الأرض . وهكذا انتهى الى موقف يناقض موقف أهل
زمانه بشكل فريد
إذ كان يعتقد فى القديم دون
الجديد . وهو يعترف بمكانة العاطفة
فى أعمال الناس وإن يكن ذلك فى غير حماسة بشكل فذ. إن هيوم لم يكن فى
صميمه ذلك المتشكك بمقدار ما كان ذلك المتعقل الذى مل التعقل ([23]) .
وطور جون
ستيوارت مل مفهوم التسامح فى كتابه المعنون "عن الحرية" (
1859 ) إذ ارتأى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد فى حقيقة مطلقة ، أى تمتنع معه
الدوجما. يقول " إن الحرية الدينية تكاد لا تمارس إلا حيث توجد اللامبالاة
الدينية التى تنبذ إزعاج سلامها بالمنازعات اللاهوتية. وحتى فى البلدان المتسامحة
ثمة تحفظات على التسامح لدى معظم المتدينين، فالإنسان قد يحتمل الانشقاق إزاء
أسلوب الكنيسة ، ولكنه لن يحتمل التسامح إزاء الدوجما" ([24]) .
وإذا كان
التنوير فى إنجلترا قد وقف موقفاً فكرياً معيناً تجاه الفلسفة التقليدية هو الرفض
والنقد معاً، فإن فلسفة الأنوار فى فرنسا بدأت بالنقد العنيف للدين .. فقد أخذ
العداء للدين ورجاله فى فرنسا صورة شعبية وغالى ديدرو والانسيكلوبيديون فى
آرائهم حتى انتهوا إلى الإلحاد الصريح. وكان الغرض الأساسى من نشر الأنسيكلوبيديا
هو تنوير الشعب وتحرير العقول بواسطة العلم. ولقد قال رامزى، الخطيب
" سوف نشرح فى الأنسيكلوبيديا ( دائرة
المعارف الفرنسية ) كلمة
الصناعة الفنية ( تقنية Technique ) . ولن نكتفى بتعريفها تعريفاً
لفظياً فحسب، بل سنعرض تاريخاً للعلوم والفنون ، وسنقدم مبادئها العامة ونبين
كيفية ممارسة هذه الصناعة . وهنا ستظهر الأنوار التى أشرقت فى جميع الأمم، وسوف
يقدم هذا العمل كل ما هو جميل وعظيم ومشرق
ومنير ونافع فى كافة العلوم الطبيعية وفى كل الفنون والآداب الجميلة . وسوف يزداد هذا العمل تألقاً مع
الزمن . وهكذا سوف تنشر فى أوروبا كلها تذوق الآداب والفنون الجميلة " ([25]) .
ولقد بدأت
فلسفة الأنوار فى فرنسا بالنقد العنيف للدين فى جميع المجالات. فمثلاً بالنسبة
للجنس، اهتم الفلاسفة الفرنسيون فى القرن الثامن عشر اهتماماً قوياً بالمسائل
المتعلقة به، ولكنهم كانوا بعيدين كل البعد عن النظر إليه بوصفه وسيلة للتناسل ،
لقد كان بالنسبة لهم شيئاً يمكن الاستمتاع به لذاته ، وسخطوا سخطاً شديداً على
القيود التى فرضتها عليهم الأخلاق الدينية. كما حاولوا التحرر من كل إلزام دينى
فقد أرادوا كذلك تدمير كل القواعد الأخلاقية المنظمة للعلاقات الجنسية ([26])
.
وقام
التنوير الفرنسى، كالتنوير الإنجليزى، على ثورة العلم وانتصاراته ... فإذا كان
لإنجلترا على وجه العموم النصيب الأوفر من العقول البذرية التى انبتت أفكار
التنوير ، فإن الفرنسيين فوق كل شىء هم الذين نقلوا هذه الأفكار فى أنحاء أوروبا
وروسيا، بل فى كل الأماكن الخارجية النامية للمجتمع الغربى فى جميع أنحاء العالم
. ومن هؤلاء فولتير ، الذى تجد فى مؤلفاته التى تربو على التسعين كل الآراء
التى بدأ بها عصر التنوير معروضة عرضاً واضحاً فيه فطنه وذكـــاء فى كثير من
مواضعه ([27]) .
وانتهى
التنوير الفرنسى مع فشل الثورة الفرنسية ، ولذلك يقول برلين: "إن فشل
الثورة الفرنسية فى إنجاز الجزء الأكبر من أهدافها المعلنة هو ما شكل نهاية
التنوير الفرنسى كحركة ونظام ". ([28])
ومن فرنسا انتقلت فلسفة الأنوار إلى ألمانيا . فكان بعض العلماء والأنسيكلوبيديين
الفرنسيين أعضاء فى الأكاديمية الملكية فى بروسيا مثل ديدرو و دالمبير .
ثم تفتحت ألمانيا لحركة التنوير الإنجليزى وتأثرت باتجاهاتها النظرية فى مجال
الفلسفة والأدب والشعر . ويعتبر ليبنتز ناقل فلسفة الأنوار إلى ألمانيا
ومؤسس هذه الحركة التى رسم لها طريقها
وحدد لها غاياتها. ولقد قال فى البحث عن الكلمة : " لا شىء يمكن أن يدخل
الغبطة إلى نفوسنا إلا التنوير الذهن وخضوع الإرادة له، وأن نبحث عن
هذا النور فى معرفة الأشياء التى تسمو بالذهن إلى الأعلى ([29])
.
ورفض
ليبنتز وجود أى تمييز حاد بين ما هو فطرى وما يأتى عن طريق التعلم : " أنا أوافق على
أننا نتعلم الأفكار والحقائق الفطرية إما باعتبار مصادرها أو بالتحقق منها من خلال
الخبرة .. وكذلك فأنا لا أستطيع أن أقبل القضية القائلة " إن كل ما يتعلمه
الشخص هو غير" فطرى". فحقيقة الارقام هى فينا، ولكن مع ذلك فنحن
نتعلمها إما بانتزاعها من مصادرها حين نتعلمها من خلال برهان إيضاحي ( وذلك مما
يؤكد فطريتها) أو بواسطة اختبارها، مثلما يفعل الرياضيون العاديون.. وهكذا
فالرياضيات والهندسة بكاملها فينا فعلياً بحيث نستطيع إيجادها هناك حين نتأملها
بانتباه وننظم ما فى عقولنا. ( وبصورة عامة ) لدينا كمية غير محدودة من المعرفة
التى لا نعيها دائماً حتى حين نحتاجها. أما الحواس مع أنها ضرورية لكل معرفتنا
الفعلية فإنها ليست كافية لتمنحنا إياها بشكل كامل، فهى لا تعطينا أى شىء غير
أمثلة من الحقائق الجزئية والفردية. فالحقائق الضرورية كما نجدها فى الرياضيات
الخاصة وبخاصـــة فى علم الحساب والهندسة لا تخضع
مبادئها للحواس ولحكمها على الرغم من أننا لا نستطيع أحياناً أن نتفق
التفكير فيها إلا باستخدام الحواس . . . . فالعقل وحده هو الذى يضع القواعد
الضرورية والروابط اللازمة بينها ... " ([30])
.
وكثيراً ما
ينظر إلى كانط على أنه الفيلسوف الذى قام بتجميع إنجازات التنوير، وتحديد
حدوده المعرفة التجريبية وتأسيسها وفقاً للعقل الخالص وفى ضوء الأخلاقية الخاصة
بها بعيداً عن مظاهر عالم الفينومينا. لكن الفلسفة الكانطية بكاملها بعظمة
تكوينها كانت معروفة لعدد قليل جداً من الناس فى القرن الثامن عشر ومن الصحيح ، من
خلال دراسة مثل هذا النمط الفلسفى ، معاملة فيلسوف كونجسبيرج على أنه رجل
حول أفكار عصرة إلى نظريات فلسفية، بدلاً من دراسة عمله بطرق فلسفية خالصة أو
كنقطة بداية لطرق جديدة فى التفكير( [31])
.
لقد تناول
الفيلسوف كانط موضوع التنوير فى مقال له بعنوان " جواب عن سؤال : ما التنوير ؟
" نشره عام 1784 فى مجلة برلين الشهرية . ويعد هذا المقال المختصر إحدى أكثر
المحاولات المدونة لمعرفة معنى "التنوير ". وفيه يقول كانط : " التنوير هو خروج الإنسان
من قصوره الذى أقترفه فى حق نفسه ، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله من دون
معونة الأخرين " .. و" ان تكون جريئاَ فى أعمال عقلك " أو " تكون لديك الشجاعة للمعرفة. وهذا هو
شعار التنوير كما قال كانط فى بداية مقاله".
ويقدم كانط صورة أكثر
تعقيداً للتنوير فيقول" يجب
أن يكون الاستخدام العام لعقل الإنسان دائماً من أجل الحرية وهذه الحرية هى وحدها
التى تؤدى إلى تفشى التنوير بين الناس ( تنير الناس ) فربما يكون الاستخدام الخاص
للعقل محدوداً للغاية ". فيجب على الحكام أن يعملوا من أجل الحرية ويقللوا
من تفشى الفوضى وعدم الأمان فى المجتمع . وكانط يطرح المشكلة بطريقة مختلفة. كما
فعل مندلزون : ماذا يحدث لو فكر الناس من دون حدود ؟ هل هذا التفكير يؤدى
بالضرورة إلى نتيجة إيجابية ؟ ويعلن كانط عدم رضاه عن هؤلاء المعاصرين
الذين يرون عصرهم فى حالة من التطور غير المحدود تجاه تحقيق الإمكانيات البشرية أو
تنفيذ أولويات اجتماعية وسياسية " عقلية ". ويتفق كانط مع مندلزون فى أن
" التنوير " كان عملية ولم يكن مشروعاً متكاملاً، عملية مليئة بالمشاكل والمخاطر. فإذا سئلنا
الأن: هل نحن نعيش فى عصر الاستنارة ؟،
فإن الإجابة هى: لا، لكننا نعيش فى
عصر التنوير. ([32])
إن التنوير
عند كانط يعنى ألا سلطان على العقل إلا العقل ذاته.. فلقد نادى كانط
بمبدأ البقاء على العقل بالعقل : "نعم يا أصدقاء الإنسانية ويا أصدقاء أقدس
المقدسات فى نظرها. لا تجادلو فى شأن العقل، فهو الخير الأسمى على الأرض
وحجر المحك لكل حقيقة
" ([33]) .
لكن مع هذا
فإنه حتى بالنسبة لكانط و مندلزون، كلمة التنوير لم تكن سهلة
التعريف، فلقد بدا لهما أن التنوير يقدم نفسه كسلسلة من العمليات والمشاكل أكثر
من كونه قائمة مشاريع فكرية يمكن وصفها
بشكل دقيق . وبوجه عام ، فإنه حتى عشرين عاماً مضت كان مؤرخو هذه الفتره
يفكرون – عادة فى التنوير على أنه ظاهرة موحدة نسبياً فى تــــاريخ الأفكار ، والتى تنتج بواسطة القاعدة
التى وضعها " مفكرون كبار " مثل مونتسكيو(1689– 175)وديدرو(1713–
84) وكانط. فلقد تقاسم هؤلاء الثلاثة الخصائص الواضحة بكونهم بيضاً وذكوراً
، ومن أوروبا الغربية . وبمعرفة
الخلافات الكثيرة بين هؤلاء "
المفكرين الكبار " فإن المؤرخين مازالوا يتجهون عادة لرؤية أفكارهم، أفكار
التنوير فى التحليل الأخير على أنها متماثلة نسبياً . فهم يتفقون فى عدة نقاط منها
: النظر إلى التنوير على أنه كان رغبة لأن توجه الأعمال البشرية بالعقل أكثر
من الإيمان، أو الخرافة أو الإلهام (
الوحى ) ؛ والإعتقاد بقوة العقل الإنسانى وقدرته على تغيير المجتمع ، وتحرير الفرد من سلطان العادة أو الإلف واستبداد السلطة أيا كان نوعها ؛ والإيمان
بالعلم والتمسك به عالمياً أكثر من الدين
أو التراث . ([34])
ورأى مندلزون
أن مصطلح " التنوير " يصعب تعريفه لأنه عبارة عن " عملية " لم تكتمل بعد ، تربية
الإنسان أو تعليمه ، تعليمه كيفية استخدام
"العقل " – الكلمة المفتاح فى
التفكير " التنويرى ". وفى
الوقت نفسه كان مندلزون على
وعى تام بأن التطور غير المحدود " للعقل " فى الأفراد يمكن أن يتعارض مع
دورهم كذوات ومواطنين ." فالعقل " إذا استخدام بشكل كبير ومن دون حدود
فى البحث والدراسة، فإنه قد يحلل النظام الإجتماعى والدينى والسياسى إلى عماء أو
فوضى ويترك الناس منعزلين فكرياً ، فتظهر صور عديدة من ( الواحدية الفكرية) . ([35])
وبوجه عام ،
فإن عصر التنوير هو عصر العقل : لكن ما طبيعة
العقل فى عصر التنوير ؟، وبعبارة أخرى ما هى الخصائص التى يتميز بها العقل
فى هذا العصر من عصور الفكر؟ أولاً : لم
تعد وظيفة العقل الأساسية هى القدرة على القياس والأستنباط مثل أرسطو . لكن
مع تقدم العلم أصبحت وظيفته الأساسية هى الكشف عن قوانين العالم فى كافة مجالات
العلم والمعرفة مثل نيوتن .
ثانياً : أصبح للعقل فى هذا العصر منهج جديد للتفكير يتفق تماماً مع تقدم
العلوم الطبيعية . وهذا المنهج هو منهج التحليل ، أى تحليل الظواهر من أجل الكشف
عن المبادىء التى تخضع لها . ومن هنا
بدأ العقل يسير فى طريق مختلف عن الطريق الذى رسمه له ديكارت من قبل . كان منهج ديكارت
يبدأ بالحقائق الأزلية الأبدية أو
بالمبادىء اليقينية بينما العقل فى عصر التنوير والعلم يبدأ أولاً بالتنقيب والبحث عن الظواهر والوقائع ثم يحللها ليكشف المبادئ والأصول التى تخضع لها ، وقد زالت فكرة الضرورة فى هذا
العصر وأصبحت المبادئ مجرد قواعد مقنعة بالنسبة لما تعرفه من الظواهر .
ثالثاً :
إن أروع ما أكده العلم الحديث فى هذا العصر " عصر نيوتن " هو أن الظاهرات تنتظم فى الوجود وفقاً لنظام رياضى
دقيق وعلى العقل أن يعين هذه الصورة الرياضية للوجود . فالتوافق بين العقل والوجود
أصبح أمراً مؤكداً بالعلم ويقيناً ولا شك فيه .([36])
رابعاً :
كان العقل للرجل العادى فى العصر التنوير هو كلمة السر الكبرى لعالمه الجديد. العقل هو الذى
يسوق الناس إلى فهم الطبيعة، وبفهمه
للطبيعة يصوغ سلوكه طبقاً لها ، وبذلك يتجنب المحاولات العابثة التى قام بها فى ظل أفكار المسيحية التقليدية الخاطئة وما يحالفها فى الأخلاق
والسياسة مما يناقض الطبيعة..
والرجل المستنير كان يعتقد أن العقل شىء يمكن لكل إمرئ أن يستناره، فيما خلا قلة بائسة معيبة .
كان العقل مكبوتاً بل كان ضامراً بفعل سيطرة المسيحية التقليدية أمداً طويلاً .
أما فى القرن الثامن عشر فإن العقل استطاع مرة أخرى أن يسترد سلطانه ، وأن يؤدى
لكل إنسان ما أداه لرجال أمثال نيوتن و لوك استطاع والعقل أن يبين للناس كيف يسيطرون على
بيئتهم وعلى أنفسهم ([37]) .
وقد لعب التنوير دوراً
مؤثراً تجاه التحول من النظرية إلى الممارسة، من مجرد النقد إلى القيام بعمل لتحسين التعليم ، والزراعة ،
والعلاقات الاجتماعية ، والحياة السياسية وإصلاحها. وأدى لظهور المطلقية
المستنيرة ، وكذلك اثنان من النظم الجماهيرية الكبرى – فى فرنســــــــا وفى أمريكــــا الشــــمالية
وكـــــان رد فعـــــــل ضد الباروكيه، والأرثوذوكسية، والحركات المضادة للإصلاح
. وكما وجدت التيارات الدائمة للنزعة الإنسانية طريقها المتحرر من كل القيود،
وكما قال ألبرخت فون هاللير أن الإنسان الذى يفكر بحرية يفكر بشكل جيد ...
بدأ الناس فى عصر التنوير ينظرون إلى المستقبل وليس إلى الماضى ، للأمام لا للوراء
؛ إذا نظروا إلى الماضى يكون ذلك بالتركيز على فترات القوة والإبداع كما هو الحال
فى اليونان القديمة وعصر النهضة الإبداعي ، وإعادة اكتشافها الآن . ([38])
وهذا ما أكده جيدنز
حيث قال : " لقد انطلق فلاسفة عصر التنوير من رؤية بسيطة لكنها كانت شديدة
القوة . فقد اعتقدوا فى القول بأنه كلما أمكننا أن نفهم أنفسنا والعالم بقدر أكبر
من التعقل ، كلما تمكننا من أن نوجه التــــاريخ لأغراضنا . ولذلك يجب أن نحرر
أنفسنا من عادات الماضى وتحيزاته حتى نستطيع التحكم فى المستقبل " . كما صاغ ماركس
، الذى يدين بقدر كبير من أفكاره لفلاسفة عصر التنوير، هذه الفكرة فى بساطة شديدة . فقد قال بأن
علينا أن نفهم التاريخ لكى نصنع التاريخ . ([39])
لكننا نلاحظ
مع ذلك، أن حركة التنوير كانت تعمل بجلاء على هدم النظم القائمة. وأن رجال
التنوير لم يكونوا على اتفاق فى الرأى ، بل إن انقساماً عظيما ً نجده فى صفوفهم
انقساماً لم تلتئم ثغرته بعد ... وحركة التنوير ليست عقيدة جديدة كل الجدة تقتلع
أخرى قديمة كل القدم . إنما هى سلسلة من التجارب، والاتجاهات، والنظرات، قديماً
وحديثاّ، وهى جزء من الأجزاء التى تتكون منها عصارة أو لب الثقافة الحديثة كما
يرى العاشق المفتون للسلام والبساطة . ([40])
ولذلك يرى برلين
أن التنوير حركة فكرية ، يتم تعريفها فى إطار محتواها الفكرى . وهذا هو الأقرب لما
نسميه تصور الفلاسفة لطبيعة التنوير . لكن برلين لم يعترف بالرؤية الكانطية
الأكثر حسماً للتنوير لدى الفلاسفة : والتنوير كحركة فكرية ربطه برلين أساساً
بالفلاسفة الفرنسيين ، وظل تصوره له متاحاً للمؤرخين العاديين ؛ وعلاوة على ذلك ،
فإنه بعيداً عن المؤرخين ، كان التنوير عنده متاحاً للقارئ العادى وللجمهور المحتل
بسماع خطبه الشهيرة ، سواء بشكل مباشر أو عبر الراديو. وحتى بالرغم من أن اهتمامه
بالتنوير يتفق تماماً مع رغبته فى استكشاف الحركة " المضادة للتنوير "
فمن المحتمل أن يكون الشعب البريطانى بحد الحرب قد فهم التنوير وتعلم مثله منه أنه
ميراث مهم للحداثة أكثر من أى شخص أخر . ([41])
ولا شك أن عرض برلين
لأفكار الحركة المضادة للتنوير كان على المدى الطويل مفسداً بشكل كبير لسمعة
التنوير فلقد ربط التنوير بعدة أفكار بسيطة : تماثل الطبيعة البشرية ، والعمومية
الدائمة للقانون الطبيعى كقاعدة للسلوك البشرى الأخلاقى ، والإيمان بإمكانية
اكتشاف غاية مثالية للمجتمع البشرى ووجوب السعى إليها . وضد هذه الأفكار تعامل
برلين مع أسس الحركة المضادة للتنوير : أن تنوع الطبيعة البشرية كان أكثر
وضوحاً وقيمة ؛ وأن الأعراف والقواعد الأخلاقية البشرية قد اختلفت عبر الزمان
والمكان ؛ وفوق كل ذلك ؛ أن المحاولة لتعريف ثم رفض منتج مثالى مفرد للمجتمع
البشرى كانت خاطئة وشديدة الخطورة . وكان برلين حريصاً على أن لا يتخذ أى
جانب . وهو لم يخف الجانب المظلم للرواد المؤيدين للحركة المضادة للتنوير، جوزيف
دمستر على وجه الخصوص . ومع ذلك فإن الاهتمام الذى خصصه للحركة المضادة
للتنوير يلقى الضوء على التنوير الذى تتصف أفكاره بإنها شديدة الصرامة كما لخصها . وسواء قصد
ذلك أم لا ، فإن طريقة برلين
فى دراسة التنوير قدمت تشجيعاً لهؤلاء المفكرين الذين رغبوا فى الإيمان بأن مثله
الكونية تمكن وراء بعض الشهور الكبرى فى العالم الحديث . ([42])
ومن خلال
تأثر برلين بالرومانسية والحركة المضادة للتنوير فإنه اهتم بعقلانية التنوير التى أصبحت التدعيم
التقليدى لليبرالية .([43])
وبشكل أكثر تحديداً
فإنه رفض المبدأ التنويرى للقانون الطبيعى ، الذى بناءً عليه يوجد نسق كونى من
القيم يتمسك به أفراد الجنس البشرى . وبرغم ذلك فإان برلين ظل ليبرالياً
مصراً على أن المبادىء الليبرالية الرئيسية يجب أن تبنى على قبول مختلف للقيم غير
المتكافئة بل والمتناقضة . ورأى أن المشكلة الرئيسية لليبرالية فى عالم ما بعد
الحداثة كانت كيفية تفسير قيمها الرئيسية من دون فروض عقلانية التنوير المثيرة
للمشاكل . ([44])
ومن الواضح أن برلين لم يهتم فقط بمبدأ المعادلة
الليبرالية العقلانية لكنه أدرك أيضاً التحدى موجه بواسطة الحركة المضادة للتنوير
، والمتمثلة فى رفضها إيمان التنوير بالعقل ؛ فقد رأى أن مفكرين مثل هامان
وهيردر وجاكوبى لم يكونوا مجرد بقايا بسيطة لذلك الفضول القديم المعروف بأنه
تاريخ الفلسفة : لقد كانوا نقاداً مبتكرين وأقوياء للعقلانية فى كل صورها وقد
درسوا الاعتقاد – وما زال هذا شائعاً بين الفلاسفة حتى اليوم – القائل بأن المشاكل
الاجتماعية والسياسية الرئيسية يمكن حلها بواسطة العقل .
والحقيقة أن
الحركة الألمانية المضادة للتنوير ما زالت باقية معنا اليوم فى صورة " ما بعد
الحداثة". فلقد تنبأ كل من هامان وهيردر وجاكوبى بنقد
عقلانية التنوير لدى ريتشارد رورتى وألاسداير ماكنتاير، فى كل الجوانب
الرئيسية تقريباً. وبينما أصبحت إيمانه القوى الأن أثراً للتاريخ فإن نقده للعقل مازال له أصداء .([45])
([7] ) Robert Wokler :" I saiah Berlin ’s Enlightenment
and counter – Enlightenment In
Isaiah Berlin ’s
counter – enlightenm ent" p – 13 ،،
،، .
([10]
) Isaiah Berlin
: The age of
Enlightenment, The Enlightenment . The 18 th century Philosophers,A mentor book, published by The New
American Library,1956,p-14
(168) Ibid, p – 2 .
([45])
Loc
– Cit .
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية