جَوْقَاتُ "الأدب" والرِّيعُ "الثقافي"

جَوْقَاتُ "الأدب" والرِّيعُ "الثقافي"
بقلم: محمد عدناني                                              
1-ضدا على التواطئ
نازَعَتْني نفسي المُتَوَجِّسَةُ سُلْطةَ التَّحَكُّمِ، وأنا أُراوِدُها لتسمح بتدوين هذا البوح، ولأنها سمحت صِرْتُ أقوى من تَوَجُّسِها، فعمدت إلى نشره، مستعينا بالحكمة الذاهبة: "دَعْها تسعى على قَدَمٍ".
كثيرا ما تجمعنا بعض اللقاءات الثقافية المتفاوتة القيمة والمختلفة التوجه. وغالبا ما تنتهي فيختلف الأصحاب والمتعارفون على هامش هذه اللقاءات إلى بعضهم البعض في لحظة صفاء بعيدا عن الرُّقَبَاء، فَمِنْ مُمَجِّدٍ لما كان مِنْ أمر لقاءٍ مَا جِهارا، ومُنْتَقِد له خُفْيَةً، ومِن مُسِرٍّ إلى صديق حميم ما أَخْفَتْ نفسه من تضايقٍ وانزعاج من طبيعة الحاضرين أو ضحالة ما قدموا. وما كنت ألاحظه دائما، وقد نفضنا أيدنا من لقاء ما، هو ازدواجية الخطاب أمام وخلف الناس. وكنت أتساءل دائما عن سر هذا التناقض بين المُعْلَنِ والمَخْفي، وتحديدا لماذا لا يُجاهِرُ المنتقدون بانتقادهم لإصلاح ما يمكن إصلاحه، علما أن بعض المنظمين يبذلون مجهودات جبارة، وفي ظروف ينحتون فيها من الذات إلى حد التلاشي أحيانا لإنجاح لقاء ما.
إن الانتقادات التي يَتَهامَسُ بها المشاركون أو الحاضرون تكون على قدر كبير من الوجاهة، ولا يليق بها أن تُخْنَقَ في الحُلُوق بتصفيق منافِق أو كلمات عارية المجاملة تتحول إلى تهليل وإكبار كاذِبَيْن يَحْجبان حقائق قد تُنَوِّرُ الناس. ألا يملك هؤلاء الجرأةَ على النقد والانتقاد صراحة؟ أم لا يملكون تقنيات وأدبيات التخاطب فَيُحَوِّلُون الحق الصادح إلى ضلال مبين؟ أم تُراهم يتورعون من إبداء الرأي خوفا على مصلحة قد تَذْرُوها كلمة حق؟ أم، بتمجيدهم الزائف، يقصدون تحطيم مجهودات الناس الذين يُبْدون رغبة صادقة في تقويمٍ يُعِينُهُمْ على تطوير نشاطهم.
ضِدّاً على هذا التواطُئ قررت أن أُلْقِي ما بِكِنانَتي، ومَا تَعوَّدْتُ على الإخفاء، وأُلْقِي معها بما أخفَتْ نفوس المُجامِلين، إشفاقا على الأدب والأدباء الذين تحكمهم علاقات ينحدر فيها ما هو علمي وأدبي رأسا إلى أدنى الدرجات، فلا يصير مُحَدِّداً فعليا للقاء أدبي أو فكري معين، واحتراما لمن يسهر على تنظيم لقاءات بِمُحَدِّدٍ أدبيٍّ صِرْفٍ. فلا رأسَ مالٍ مشكوكٍ في مصدره أخشى ضياعه، ولا ربحا مشبوها أرجو حصوله إذا ما أنا جاهَرْتُ بِحَقٍّ جِهارَ آخرين بنقيضه. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
2- الجمع بين المتنافرات
لا يُخْفِي العنوان هذا السر، فإسنادُ الأدب إلى الجَوْقَةِ، والرِّيع إلى الثقافة، يجعل التَّهافُتَ سهما مَرْكُوزًا في طباع "حُماة الثقافة". والمحصلة أننا أمام تَدْنيسِ المُقَدَّسِ. إذِ الجَوْقَةُ فوضىً وقُبحٌ، والأدب نظامٌ وجمالٌ، والأديب سُمُوٌّ ونفسٌ كريمة وعاطفة نبيلة وفكر رصين، والتهافتُ تَمَلُّقٌ وتَنَطُّعٌ وإسفاف... . وإني لَأَقْصِدُ إلى كل هذا قصدا. فليتسع صدرك لِتَجَاوُرِ هذه المتنافرات في انتظار الفصل بينها عن بَيِّنَةٍ. إن المتأمل في المشهد الثقافي المغربي، ومعه العربي، لن يُشْكِلَ عليه تَبَيُّنُ أشكال الفساد التي تَعْتَوِرُهُ ناخِرَةً عِظامه الهشة أصلا. والكل متورط بمقدار، المؤسسة والفرد. إذ لم يعد ممقوتا، أو حتى مستغربا أن ترى فلانا يجمع لوحده ما تَفَرَّقَ في الآخرين "يُبدع في كل شيء"، وينقل إبداعه الرَّثَّ على منصة القصة والشعر والتشكيل والنحت، وما شِئْتَ من الكائن والممكن. بل إن "عبقريته" السَّائِبَة تتجاوز الجمع بين كل هذا لتمتد إلى النقد، فيحاضر في لقاء مادته الرواية، وآخر خاص بالشعر: قديمه و حديثه (سيان عنده)، وفي القصة والقصة القصيرة، وحمار المتهافتين "القصة القصيرة جدا". وإذا لم يعجبك هذا التطاول، فتوقعه مُغيظُكَ بمحاضرة عصماء في المسرح والسينما وفنون الأداء، والديمقراطية والتكنولوجيا... .
فمن أين له بهذه "العبقرية" التي تجعل حضوره كالقَدَرِ المَقْدور لا رادَّ له؟!. البحث في تَعَقُّبِ مصادر العبقرية ضرب من السَّفَهِ، فالأمر عائد إلى قوىً غيبيةٍ قد لا يكون من السهل إدراكها، ولكن البحث في تجلياتها ممكن ومطلوب لقياس حجمها أو تبريرها عندما تُطِلُّ علينا بكل هذا التجلي والنبوغ. ومُؤَدَّى البحث يقود إلى نتيجة بسيطة وظاهرة لا تَكَدُّ ذهن الغبي، ولا تُرهِقُ فكر الذكي. إنها "عبقرية" مَدْخولة ومَدْغولة، لأنها مصنوعة لا أصل لها. ولأنها كذلك، فَتَعَقُّبُ صانِعِيها أمر مُتاح، وهم متعددون في المشهد الثقافي المغربي ومحيطه.
-1-2  الأستاذ والتلميذ:
لحن الشيخ وشَطْحات المُريدين هذا التناغم بين الَّلحْنِ والشَّطْحِ أصيل في الثقافة، ومُحَبَّبٌ أيضا، عندما يكون الشيخ نَزيها، والمُريد عفيفا. أما والحال كما نرى من تَهافتِ الطالب والمطلوب، فاعتبره لَحَناً لأن اللَّحْنَ، في هذا المقام، ناشِزٌ والشَّطْحُ مُقَزِّز. الكثير من "الأدباء" و"المبدعين" أغنية رديئة على أُسطوانة مَشروخة، مِن عَزْفِ جَوْقاتِ التلاميذ الذين تتقاذفهم الأمنيات للفوز بِرضا الشيخ/ الأستاذ، لا سيما إذا كان صاحبَ سلطةٍ ونُفوذٍ، طَمَعاً في جزاء غير مُسْتَحَقٍّ. لنأخذ بعض الأمثلة العكسية لهذه العلاقة غير السوية بين التَّلْمَذَةِ والأُسْتَاذية في رِحاب التهافت، ولك أن تستحضر الأخرى التي أقصدها: أين الناس من أمجد الطرابلسي وأحمد اليبوري ومحمد برادة ومحمد مفتاح ومحمد العمري...؟؟؟!!!. أين هؤلاء من المشهد الثقافي المغربي؟ ومنهم من لا زال عطاؤه غزيرا رصينا مفيدا.
-2-2 الإعلام وسلطة الظهور.
للمغرم بالحساب عَدُّ ما لثقافة الكلمة "شعرا ونثر، ونقدا" من مساحة زمنية على خريطة وسائل إعلامنا، خصوصا المرئية، وبعدها المسموعة، ولْيَعُدَّ ما للثقافة بمفهوم الشطح من اعتبار ليفهم أي "مغربِ الثقافات" نحيا. فحين يُمَكَّنُ من هذه الوسائل الجماهيرية، بامتياز، أناس تُوَجِّهُهُمُ الشهوة وضعف الشخصية، يغيب المتواضعون بتاريخهم وعلمهم، ويَتَنَطَّعُ "العباقرة" بتهافتهم. وهذا أحد أوجه الجواب عن سر غياب من أشَرْتُ إليهم آنفا، ومعهم الكثيرون في تخصصات شتى. وفي ومضة، كومضة الشأن الثقافي في وسائل إعلامنا المغربي، أقول: إن سعي هذه الوسائل إلى تنصيب هياكل المبدعين والمفكرين الجامدة كتذكار بالخيبة الملازمة للمثقف، جريمة في حق هذا الشعب.
-3-2 العلاقات والمؤسسات
يفتح هذا العنوان ذاكرتي على معضلة كبيرة في الفكر العربي عموما، وهي التوجيه المُكَرِّسُ، باستمرار، لأشكال الكتابة من خلال احتضان المؤسسة لهذا، ولَفْظِها لذاك. فهل شِعْرُ المدح أرقى أشكال الكتابة الشعرية؟ وهل الرسالة أسمى من المقامة؟ وهل الخطابة أرفع من المناظرة... وهل عَطايا المادحين -ولو كَذَبوا- كَشتاتِ المتغزلين، ولو صَدقوا؟؟؟؟. وَقِسْ على هذه المُتَقابِلات ما شِئْتَ من صُنوف الكتابة والكُتاب.
إن الكتابة الواقعة تحت جاذبية المؤسسة، والتي يرعاها سقف البلاط، أو الجمعية أو الحزب أو كل مَنْ هو ذا نفوذ وسلطة...، هي الذائعة المهيمنة. لأنها ببساطة خادمة. والخادم مُؤْتَمَنٌ لعجزه أو لغبائه. أُثْبِتُ للأستاذ محمد الولي كلمة قالها ذات مرة في مقدمة أحد كتبي: "لا يغني للانتصارات إلا الصغار من الشعراء، وهم بذلك سرعان ما يموتون. بهذا نفهم عبارة محمود درويش الذاهبة إلى أنه لا يعرف شعرا عظيما متولدا عن انتصار". وهي الكلمة التي تتردد في أعماقي كلما سمعت "شعرا" يفرح به أصحابه، منتصرين لضعفهم، مُسْتَقْوِينَ على خيبتهم الدفينة بتصفيقِ أيادٍ آثِمَةٍ أو جاهلة. مَن منا الآن يروقه سماع الشعر؟. ومع ذلك يصفق، وبعدها يشتم كلما سَمِعَ غُثاءً. ومع ذلك تُدْفَع للشعراء الهدايا والجوائز كما تُدفع لغيرهم في أشكال إبداعية أخرى. وهذا يفتح بابا مريحا للاستئناس بخبايا الجوائز، ونحن اليوم، نعيش لحظة الإعلان عن جائزة المغرب للكتاب، ولحظة المعرض الدولي للكتاب، وما فيه من لَغْطٍ ولَجَبٍ.
بصدق لا أشك في أحقية من فاز سابقا، أو الآن، ولكني أتساءل دائما: أَلَمْ تُخْلَقِ الجوائز مهما تباعدتِ الأوطان والأزمان إلا لهذا أو لحاشيته، ولم تُخْلَقِ اللجان المُنْتَقاةُ –بعناية فائقة- لهذه الجوائز إلا لهذا ومَن سبح في فلكه. كيف تُنْتَقَى الأعمال واللجان، وهل لذلك معايير علمية؟؟. ومن يعرف بعض فضائح الجوائز ومُقَرِّريها، ومن يعرف أسماء بعض اللجان الموكَّلَة لاختيار أصحاب الجوائز، يَبْطُل تعجبه من فوز هذا ونسيان ذاك لأبد الآبدين. ولكن الكل مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له في الأزل. فهذه إرادة أخرى تسير جنبا إلى جنب مع إرادة الله !!! .
الجوائز تُقَدَّمُ من المؤسسات، والمؤسسات محكومة بتوجه لا ينبغي أن تحيد عنه، وإن ادعت الاستقلالية، فلننظر إلى اتحاد كتاب المغرب، ونقارن، بحسن نية، في تساؤلين: هل هذا الاتحاد، تحت رئاسة فلان المنتمي للمؤسسة الفُلانية، هو الاتحاد نفسه تحت رئاسة الآخر الذي لا "انتماء" له؟. وهل الذين تَسَنَّموا مواقع الاتحاد جاؤوا بتزكية أعمالهم (كَمّاً وكيفا)، أمْ قَطَرَ بهم السقف المثقوب؟ بل، وهنا أسمح لنفسي بخرق التعهد (سؤالين)، أين هو الاتحاد وما شاكله من "اتحادات" بَديلة أو مُنافِسة...؟ وهل سَمِعَ أحدكم أن الثقافة خاصمت "المثقفين" حتى سِيقوا إلى المحاكم، كباقي المجرمين؟ أَكُلُّ هذا دفاعا عن نزاهة الثقافة، أم عن مصالح ضيقة مُسَّتْ؟.
فكما كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في زمن من الأزمان، مجرد موقع ومَأْوىً لكل مظلوم، بدون مرجعية، كما فهمت من قول صريح للأستاذ محمد العمري في جزئه الثاني من سيرته الذاتية "زمن الطلبة والعسكر"، صار اتحاد كتاب المغرب، وأشقاؤه الصغار مأوى لكل مظلوم من نفسه وقرينه، وكلاهما يأمران بالسوء. إن المؤسسات، أي مؤسسات، -بالاختصار المفيد- أنسب مكان للاسترزاق والتَّسَوُّلِ والتَّوَسُّلِ. ليس استرزاق العلم طبعا، ولا تسول العزة، ولا توسل الكرامة، وإنما أشياء أخرى ما حَلُمَ بها العلماء منذ القديم إلى الآن.
قرأت قبل أيام قليلة مقالا للأستاذ سعيد يقطين، على هامش جائزة المغرب للكتاب، وفيه حسرة على مآل الثقافة و"المثقفين"، وتابعت له لقاءً تلفزيونيا تناول فيه مظاهر الفساد الثقافي في الثقافة العربية. ومن جملة ما أثارني هو استغرابه من عزوف أصحاب المال عن دعم الثقافة. ولكن الذي ينبغي التأكيد عليه أكثر، هو أين المثقفون الذين يُحْرِجُون أصحاب المال باحتقار أموالهم، والإعلاء من شأن الثقافة والمثقف؟، بل أين هي المؤسسات التي لها مشروع ثقافي واضح ومفيد، يتجاوز هَزَّ الخصر وارتعاش الصدور؟. فأصحاب المال يُدْرِكون أن الثقافة مشروع "مُخْسِرٌ" بوجود "مثقفين" كالمقاولين، عفوا، كالبنائين يُشَيِّدون صُروحا للآخرين ظنا منهم أنهم يستفيدون، فهم أشد لهفة على الربح من المقاول، بالغش طبعا، أو بالتستر عليه. والعذر، كل العذر، للمقاولين/ البنائين لأنهم يشيدون واقعا، وينسفون أحلاما، واللوم كل اللوم على "المثقفين" لأنهم يشيدون أوهاما، ويدمرون تاريخا.
"مغرب الثقافات"، و"مغرب الرياضات" رهان على الخسارات الكبرى والخَيْبات المتلاحقة، فَلِمَ التجزيئ في هذه المراهنة؟ فلْيُعَمِّمُوا رهانهم على أشكال أخرى من "الثقافة" حتى يعم الفساد !!.
بهذا المنطق فقط، أفهم كلام الأستاذ يقطين. فما دامت تلك خيبة، وهذه خيبة، فما مبرر الاعتناء بخيبة الخصر والجيد، وإقصاء خيبة الكلمة. ربما للصورة المتحركة سحرها، فلم يعد للتَّخْيِيل مقام. ولِكَبْتِنا سحر آخر لم تعد معه إلى المقاومة سبيل. وربما يعاني أمثالي عَتَها، أو -بأخف عبارة- تخلفا معرفيا في توصيف الأشياء بِمُسَميات دقيقة، فالخيبة أَبْعَدُ من الخصر والشطح والجيد... ، وأَلْصَقُ بالكتابة. وربما أشْبَاهِي يَهْذُونَ كلما أفصحوا عن تذمرهم المَزْكوم في صدور الآخرين نِفاقا أو لامبالاة !!!.
لهذه الجُمَلِ والأسئلة امتداد في ذواتكم، عَلَّ رَجْعَ الصدى يُخْبِرُني بما أجهل. ولكن لا تنسوا أن الشاعر قال قديما:
يا حُرْقَةَ الدهر كُفِّي*** إن لم تَكُفِّي فَعِفِّي
فلا بِحَظِّي أُعْطَي *** ولا بصنعة كَفِّي
خرجتُ أطلب رزقي *** وجدت رزقي توفي
كَمْ جَاهلٍ في ظُهور*** وكَم عالِمٍ مُتَخَفِّي
وقال الآخر:
إني لأفْتُح عيني حينَ أفتَحُها *** على كَثير ولكن لا أرى أحدا.
محمد عدناني : أستاذ جامعي/ كلية الآداب/ الرباط

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس