مع أبي حيان التوحيدي في شقوته

مع أبي حيان التوحيدي في شقوته
أبو حيان التوحيدي في شقوته محمد الشيخ

كتاب صدر في بيروت، عن مركز دراسات الوحدة العربية: «مع أبي حيان التوحيدي في شقوته» للدكتور محمد الشيخ أستاذ الفلسفة بكلية بن مسيك بالبيضاء يعرض فيه جوانب من شقاء هذه الشخصية القلقة، وينقل فقرات من كتبه تبيّن مدى معاناته مع زمانه وأهل زمانه.
يبدأ محمد الشيخ كتابه على الصورة التالية: «هَبْ، أي قارئي، ان آلة الزمن طوحت بك الى بغداد في نهاية القرن الرابع الهجري، وبالذات إلى أحد احيائها الفقيرة، وانه صادف تطوّحك فيها انبعاث دخان من احدى دور الحيّ البئيسة وهياج الجيران وإخراجهم لرجل تجاوز الثمانين بعشر، رثّ الحال، كئيب الوجه، ومحاولتهم اليائسة في إبعاد نار أتت على جلود. وهَبْ أنك علمت من أحد جيران الرجل أن الأمر يتعلق بورّاق يُدعى أبا حيان التوحيدي، أمسى لا أهل له، بعد أن هلكت جاريته، وأن النار التي نشبت ما اضرمت بفعل فاعل، وإنما كانت من عمل صاحب البيت نفسه، رغبة منه في إحراق كتب كان قد كتبها، وذلك باعتبار ما زعمه من قلة جداواها، وضنّاً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته، ومن تلك الأوراق التي كانت تتعرض للمحرقة، رسالة بعث بها أبو حيان الى صديق له يُدعى أبا الوفاء البوزجاني، قال له فيها: «..خلّصني أيها الرجل من التكفف، وأنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضرّ اشترني بالإحسان، اكفني مؤونة الغذاء والعشاء.. إلى متى الكُسَيرة اليابسة والبقيلة الذاوية، والقميص المرقّع؟».
ويتابع أبو حيان في رسالته: «إلى متى التأدب بالخبز والزيتون؟ لقد أذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني، أيها الكريم ارحم.. دع لي ألف درهم».
روح الكآبة
كانت الشكوى من الزمان من ألزم عوائد التوحيدي في تأليفه، وما قسا مفكر عربي على زمانه قدر ما فعل أبو حيان، فهو يصف زمانه بـ«فساد المزاج»، ولهذا السبب تعلقت الكتابة عنده بالكآبة من الزمان، ولربما لم تقترن الكتابة بالكآبة في التراث العربي الإسلامي بالقدر الذي اقترنت به عنده، ولكنه كلما اشتكى جوّد، وبقدر ما اشتدت عليه المحن أبدع، وكان محدثاً عجيباً يروي عن مجالس الأنس التي كانت تجمعه بأعلام عصره، أورد «بدائع كلام النسّاك» و«غرائب ألفاظ الصوفية» و«محاسن كلام أرباب المقالات» و«طرائف ما لاح لذوي الآراء والديانات» وغيرها من كلام البلاغيين والمتأدبة، ومن أقوال الظرفاء والمتمجّنة، وكان راوية، ولكن ما كان هو بالراوية الصرف، ولا كان بالمؤلفة المحض، أكثر من هذا كان التوحيدي سائلة: السؤال عنده فن قائم بذاته، إذ عادة ما لا يكون السؤال عنده من باب الجدل، وإنما السؤال وجودي المنبع عنده، ينقدح سؤال الانتحار في ذهنه، ويحمل سؤاله على كتفه صليبا يكتوي به، لنتأمله يطرح سؤال حب السلطة: «ما السبب في محبة الانسان الرياسة؟ ومن اين حدث هذا الخلق؟ واي شيء رمزت الطبيعة به؟ ولمَ أفرط بعضهم في طلبها حتى تلقّى الأسنّة بنحره، وواجه المرهفات بصدره، وحتى هجر من أجلها الوساد، وودّع بسببها الرقاد، وطوى المهامة والبلاد؟ بل طرح سؤال المثقف والسلطة: «قلت لعلي بن القاسم: كيف كان ابن العميد يستجيز قتل النفوس وهو يتفلسف؟».
إغراء الفلسفة
ويرى د. محمد الشيخ أن من المجالات التي استأثرت باهتمام التوحيدي «الحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه»، والحال أن الحديث من الإنسان، يتردد في تأليفه كافة، وقد كان حديث الفلاسفة عن الإنسان خصوصا أمرا يغريه، والأصل الذي يؤصل عليه حديثه عن الإنسان وجد بمناسبة حديثه عن «الصبر على معاملة الناس»: «نظرت في حال الإنسان، وصوّبت طرفي فيه وصعّدت، وحسبت ما له وما عليه وحصلت، وأجملت ما به وفيه وفصّلت».
هذا ما ذكره الباحث في كتابه عن التوحيدي الذي شغف به الكثيرون من المحدثين من هؤلاء الشاعر والباحث السوري أدونيس الذي كتب عنه في مجلة «أدب» اللبنانية المحتجبة مقالاً نقل فيه كلمات كثيرة نافذة للتوحيدي. والواقع أن في تشاؤم التوحيدي شيئاً من تشاؤم المعري وتطير ابن الرومي. وفي سوء ظنه بالطبيعة البشرية يقترب من ماكيافيلي ومن لاروشفوكو.
والتوحيدي، كما يتبدى في الكتابات الحديثة عنه، هو كاتب الخبرة الوجودية، بمعنى أن أغلب ما كتب موصول بتجربته الشخصية. ملوّن بنظرته إلى الأشياء، معجون بدمائه وعظامه وأعصابه، يخرج من أفق الخبرة الشخصية إلى أفق التأمل في دوافع السلوك البشري وألاعيب الأقدار، ليس في نثره نثر الطلاء الكاذب أو الزخرفة الخارجية، وإنما هو في أحسن أحواله، الرجل ذاته، وهو مرآة حياته الباطنية على نحو ما رأى العقاد والمازني في شعر ابن الرومي والشريف الرضي.
التوحيدي وكامي
ويبقى من التوحيدي ذلك الجوهر الإنساني المضيء، كشعلة صغيرة في ظلام العصور: العبقرية العربية حين تواجه الأسئلة الكبرى في الوجود، فلا تمنعها حدود زمنها من الخروج إلى أفق إنساني فسيح، ومن معالجة أدق المشكلات الوجودية المتعلقة ببدن الإنسان وعقله وروحه. إن صرخات التوحيدي مثل صرخات ألبير كامي من بعده، كثيراً ما ترتطم بجوار أصم من صمت الكون ولا مبالاته.
ولكنها، إذ ترتطم به تبعث رنيناً عقلياًَ ووجدانياً وفنياًَ له موسيقاه المأساوية وذبذباته المنتشرة في الفضاء، وموسيقى المعاناة البشرية هنا تلتحم بموسيقى الأفلاك في رقصة كونية واحدة ملؤها العذاب والنشوة والدوار!
* سنحت لي الفرصة للاستماع لمحاضرة للأستاذ حول الموضوع  بلغة عربية فصيحة راقية . وهي عندي لمن أراد الحصول عليها 

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس